من حين لآخر تثور بعض المسائل الجدلية ويكثر الحديث حولها، ومن تلك المسائل التي دار حولها نقاش عام بعد تعرض فضيلة شيخ الأزهر لها مسألة التفاضل بين الأنبياء.
وثمة نصوص قرآنية تثبت ذلك التفاضل بشكل صريح قطعي كما في قوله تعالى: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) (البقرة: 253)، وقوله عز وجل: (وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا) (الإسراء: 55).
كما أن ثمة نصوصاً أخرى تمنع من التفريق بين الأنبياء؛ قال الله تعالى: (قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (البقرة: 136)، وقال تعالى: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ) (البقرة: 285).
وعندما يبدو بين النصوص شيء من التعارض الظاهر، فإن العقل الفقهي يوجه طاقة اجتهاده نحو الجمع بين هذه النصوص وإعمالها جميعاً؛ فالأصل في النصوص الشريفة أن تتآزر ولا تتعارض وأن يكمل بعضها بعضاً لا أن يعطل بعضها بعضاً.
وهنا ينبغي علينا أن نسأل: من أي وجه يتفاضل الأنبياء؟ ومن أي وجه لا يتفاضلون؟
وللجواب عن هذا السؤال نقول:
يمتنع التفريق بين الأنبياء عليهم السلام من الوجوه الآتية:
1- لا تفريق بين الأنبياء في رتبة النبوة وما تقتضيه من الفضل والعصمة، فجميعهم مصطفون وجميعهم معصومون ولا يصطفى للنبوة إلا الأفاضل الأماجد من الناس، كما قال تعالى: (اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) (الأنعام: 124)، والإيمان بهؤلاء الأنبياء جميعاً من أركان الإيمان، وفي الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه حين سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقال: «أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره».
2- وينبغي كذلك ألا يفرق بين الأنبياء على وجه الانتقاص من المفضول منهم ولا من رسالته، فجميعهم مبلغون عن الله ما أرسلهم به من الرسالات الفاضلة، وأوحى إليهم من الوحي الشريف.
ولعل النبي صلى الله عليه وسلم في نهيه عن المفاضلة خاف على أمته من ازدراء بعض الأنبياء الكرام أو الحط من قدرهم الرفيع، فنهاهم نهي تأديب ونهي تربية تنبيهاً لهم على وجوب توقير الأنبياء جميعاً ومحبتهم جميعاً دون مفاضلة في استحقاقهم للمحبة والتوقير.
ولعل هذا هو الذي حدا بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى أن يقول: «ولا أقول: إن أحداً أفضل من يونس بن متى»؛ وذلك حتى لا ينتقص أحد من المسلمين يونس عليه السلام بعجلته عن قومه وما جرى له من الابتلاء العظيم بالتقام الحوت ولبثه في الظلمات الثلاث حتى تداركه ربه بكشف الكرب ورفع البلاء.
وهذا التوجيه النبوي تأكيد أن ما وقع فيه بعض السادة الأنبياء من العوارض البشرية التي راجعهم فيها الوحي الشريف وأدبهم بالأدب الكريم لا يعني انتقاص قدرهم ولا فضلهم.
وهذا وجه عظيم من وجوه التماثل بين الأنبياء؛ وهو وجوب احترامهم ومحبتهم وتوقيرهم جميعاً.
3- كما أنه لا يفرق بين الأنبياء تفريقاً يقود إلى الصراع بين أتباعهم، وفي الصحيحين أن رجلين استبا، أحدهما مسلم والآخر يهودي، فقال المسلم: لا والذي اصطفى محمداً على العالمين، وقال اليهودي: لا والذي اصطفى موسى على العالمين، فرفع المسلم وده، ولطف اليهودي، فجاء يشكو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «لا تخيروني على موسى»؛ والمعنى: لا تفاضلوا بين الأنبياء تفاضلاً يؤول بكم إلى الاقتتال انتصاراً لبعض الأنبياء على بعض، وهم في الحقيقة إخوة مؤتلفون متحابون.
4- ولا تفريق بين الأنبياء إلا حيثما دل الوحي على التفريق، فتلك المسألة من السمعيات التي لا مدخل فيها للاجتهاد ولا للقول بالرأي، فوجب أن نثبت التفضيل حيث أثبته الوحي الشريف، وأن نمسك عنه حيث أمسك الوحي، ونرد الأمر في ذلك كله إلى الله رب العالمين.
5- كما أن النبي صلى الله عليه وسلم يحمل نهيه عن المفاضلة بينه وبين إخوانه من الأنبياء رغم ما ثبت يقيناً من أنه سيد ولد آدم وخير ولد آدم، على أنه أخذ منه بفضيلة التواضع، فإن من كمال الفضل ومن تمام الخلق ألا يرى الكريم الفاضل نفسه خيراً من غيره، فينزل بنفسه عن درجتها مع ثبوتها له تأدباً مع ربه عز وجل، وتعليماً لمن وراءه من الأصحاب والأتباع فضيلة التواضع، فإذا كان وهو سيد البشر لا يفضل نفسه عن إخوانه من الأنبياء وينهى أتباعه عن ذلك، فإن هؤلاء الأتباع أولى بخفض الجناح وإظهار التواضع لغيرهم من الناس.
تلك وجوه خمسة يفهم بها ما ورد في الكتاب والسُّنة الصحيحة من نهي عن المفاضلة بين السادة الأنبياء، لكن هذا لا يمنع من إثبات المفاضلة منضبطة بضوابطها الصحيحة، فيحمل التفريق بين الأنبياء -حي أثبته القرآن- على أنه تفريق في درجات الفضل داخل منزلة النبوة الفاضلة بذاتها.
وهذا التفاضل بينهم في معاني الفضل يعني أن بعضهم أكمل من بعض، ولا يعني أن أحدهم متصف بتلك الصفة من أوصاف الفضل اللائق بالأنبياء والآخر عري عنها، فهم مشتركون في صفات الفضل جميعها ولا يمتنع أن يكون بعضهم أزيد فيها من بعض، فالمقصود هنا التفاوت في درجات الكمال وليس التفاوت بين كمال ونقص.
ولا يمتنع أن يكون بعض الأنبياء قد أوتي صفة من الصفات على نحو لم يتح لغيره، فأوتي أيوب الصبر على المرض، وأوتي موسى الصبر على جهالات قومه، وأوتي نوح عزيمة البلاغ إلى ما يقرب من ألف عام.. لكن ذلك لا يعني أن غيرهم من الأنبياء وإن لم يرد ما يبتلي فيهم هذه الصفات كانوا خليين عنها معاذ الله.
وهذه المفاضلات إذن في وجه منها هي مفاضلات في درجات الحسن، كما أنه لا يمتنع أن يكون بعض الأنبياء أعلى رتبة من بعض، فلا ريب أن الرسل الذين جمعوا بين النبوة والرسالة وآتاهم الله الكتاب هم أعلى رتبة من النبيين الذين أوتوا الوحي ولم يؤتوا الكتاب، ولا ريب كذلك في أن أولي العزم من الرسل أرفع درجة من غيرهم من النبيين، وهم الذين ورد ذكرهم في موضعين من كتاب الله، في قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا) (الأحزاب: 7)، وقوله: (شَرَعَ لَكم مِنَ الدِّينِ ما وصّى بِهِ نُوحًا والَّذِي أوْحَيْنا إلَيْكَ وما وصَّيْنا بِهِ إبْراهِيمَ ومُوسى وعِيسى أنْ أقِيمُوا الدِّينَ ولا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) (الشورى: 13).
ولا ريب أيضاً أن النبي محمداً صلى الله عليه وسلم هو أكمل الأنبياء وأرفعهم درجة، وقد اختصه الله عز وجل بما لم يختص به أحداً منهم، وقد أحسن الإمام ابن عبد البر في كتابه «الاستذكار» حين جمع روايات اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بخصائص لم يؤتها أحد من النبيين ولا أحد من العالمين في مسلك واحد في حديث أبي ذر الغفاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أُوتيتُ خَمْسًا –وروي ستاً، وروي سبعاً- لم يُؤتَهُنَّ أحَدٌ قَبلِي، بُعِثتُ إلى الأحمَرِ والأسوَدِ، ونُصِرتُ بالرُّعبِ مَسيرةَ شهرٍ، وجُعِلتْ أمَّتي خيرَ الأمَمِ، وأُحِلَّتْ ليَ الغنائِمُ ولَم تُحَلَّ لأحَدٍ قَبلِي، وجُعِلَتْ ليَ الأرضُ مسجدًا وطَهورًا، وأوتيتُ الشَّفاعةَ، وبُعِثتُ بجوامِعِ الكَلِمِ، وبَيْنا أنا نائِمٌ أُوتِيتُ بمفاتِيحَ خزائِنِ الأرضِ فوُضِعَتْ بينَ يديَّ، وزُوِيَتْ لي مشارِقُ الأرضِ ومغارِبُها، وأُعطِيتُ الكوثَرَ وهو خيرٌ كثيرٌ وعَذْبٌ، ولي حَوضٌ تَرِدُ عليه أمَّتي يومَ القيامةِ، آنيتُه عددُ نجومِ السَّماءِ، مَن شرِبَ منه لم يَظمَأْ بعدَها أبدًا، وخُتِمَ بي النَّبيُّونَ» (ابن عبدالبر، الاستذكار (1/ 133) وصححه)
وعلى المسلم أن يكون بصيراً بتلك المسألة فيثبت التفاضل حيث أثبته الله على وجهه الصحيح، ويحترز من المفاسد التي لأجلها نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المفاضلة بين السادة الأنبياء.
إن الأنبياء يتساوون في أصل النبوة وفي عصمة الله لهم وفي وجوب الإيمان بهم وفي وجوب المحبة والتوقير لهم، وينبغي ألا نفاضل بينهم في ذلك، كما لا نفاضل بينهم مفاضلة تؤدي إلى ازدراء أو انتقاص فيكون في ذلك مساس بركن من أركان الإيمان، ولا مفاضلة تؤدي إلى الصراع بين أتباع الأنبياء، ولا نثبت بينهم تفاضلاً إلا حيث أثبته الوحي الشريف.