ظاهرة خطيرة تهدد النسيج المجتمعي العربي والإسلامي على المستويين الأسري والاجتماعي؛ ألا وهي ظاهرة الإلحاد التي انتشرت في بلادنا خاصة في السنوات العشر الأخيرة.
وبعد أن كان الملحد أو المشكك في عقيدة المسلمين يخفي توجهه خوفاً من الانتقاد والرفض الاجتماعي، صار يجاهر عبر قنوات التواصل الاجتماعي ويجد له مكاناً على الفضائيات يشرح فيها عقيدته الجديدة، بل ويدعو إليها ويبشر بها، وصارت لهم منابر وأسماء أخرى مثل «التنويريين» يعرضون بضاعتهم الفاسدة ويجدون لهم أتباعاً ومريدين ومدافعين رغم حججهم الفارغة، وضعف منطقهم.
وبالرغم من جرأة البعض في الاعتراف بإلحاده، فإن خشية البعض من نظرة المجتمع وتلقي اللوم أو الملاحقة الأدبية تجعله يخفي معتقده أمام الناس خاصة الأهل والمقربين، ولذلك فمن الصعب رغم ارتفاع أعداد المتابعين لصفحات كبار الملحدين تقديم إحصائية مقربة لعددهم الحقيقي، خاصة في منطقة الخليج العربي الذي يمثل فيه الدين جزءاً أصيلاً من ثقافته، وما زالت معظم العادات والتقاليد العربية والإسلامية موضعاً للتفاخر فيما بينهم.
وفكرة الإلحاد المعاصر التي يروجون لها وهي عدم وجود إله خالق مدبر لهذا الكون، فكرة مستحدثة وليست قديمة بقدم الإنسان، فقد كان الأنبياء يرسلون لأقوام يؤمنون بآلهة متعددة، لتصحيح تلك المعتقدات الباطلة ونشر فكرة التوحيد الخالص؛ توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية؛ هو الله المستحق للعبادة وحده لا شريك له، وهو الرب الخالق الرازق المحيي والمميت، فقد خلق الله عز وجل الإنسان بفطرة سوية ووضع في وجدانه حاجته لعبادة خالق قوي قادر يلجأ إليه وقت حاجته، والإنسان وحده ضعيف لا يطيق فكرة وجوده في الكون دون تلك القوة التي يستند إليه أوقات ضعفه وحاجته التي يعجز فيها عن حلها وحده.
والله عز وجل يصف بدقة نفسية الملحد الذي يؤمن بفطرته بوجود إله فيقول تعالى: (وجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّا) (النمل: 14)، فهو الكبر والعناد والهروب من التكليف الإلهي بالعبادة والمسؤولية والأخلاق والالتزام، وتلك آفة كافة أنواع الكفر، سواء كان كفراً بالله سبحانه، أو إنكاراً للأديان مع الإيمان بوجود قوة مطلقة، أو إنكار لبعض التشريعات الدينية كالصلاة أو الزكاة أو الصوم، أو تحريم الزنى وتناول المسكرات، أو التنصل من الجهاد في حال وجوبه.
أسباب تحول الإلحاد لظاهرة
– التربية الأسرية:
تمثل الأسرة المنبع الأول لتكوين ثقافة الأبناء، وكلما قوي ترابطها وقام كل فرد من أفرادها بواجبه تجاه الآخر انطلاقاً من المسؤولية الربانية؛ تشكلت قوة كبرى في مواجهة أي مد خارجي لتغيير ثقافة الأمة، وتذويب الشباب في الثقافات الواردة، ويلحق بالدور الأسري دور المؤسسات التربوية؛ كالمسجد والمدرسة والجامعة، وقد تخلت الأسرة العربية عن جانب كبير من دورها التربوي حين خرجت الأم للعمل على حساب تربية أبنائها وملاحظتهم والعناية بعقولهم ووجدانهم وأفكارهم.
– العولمة:
تعتبر فئة الشباب والأشبال الأكثر تأثراً بمبادئ العولمة والثقافات الغربية؛ نظراً لتعرضهم لكافة وسائل التواصل الاجتماعي والألعاب الإلكترونية التي هي من أهم وسائل العولمة لنشر هويتها في العالم خاصة الإسلامي، فالذي يستخدم تلك الوسائل هو في حقيقته غير مؤمن، ويحرص على نشر أفكاره الإلحادية التي تعتبر الضمانة الكبيرة لاستمرار التبعية للغرب وحده.
ويصل الأمر للأفلام الكرتونية التي تقدم للأطفال ومنها ما اشتهر في بلادنا وتستسلم الأسرة لشغل وقت الأطفال وإلهائهم عن الأم المشغولة، ومنها على سبيل المثال المسلسل الشهير «تنة ورنة»، وهو من إنتاج والت ديزني، ويصور أن الجنيات هن المسؤولات عن تغيير الفصول، وهن من يدرن حركة الكون، لذلك فالعولمة سبب رئيس في نشر الفكر الإلحادي في ظل الغياب الأسري.
– التعليم:
يمثل التعليم ركناً أساسياً كذلك في نشر الإلحاد؛ خاصة أن المناهج الدينية بالمراحل المختلفة ليست كافية لمواجهة فكر يبذل صاحبه جهداً كبيراً ويستخدم وسائل متعددة وجاذبة للسيطرة على عقول النشء، فالتعليم العام ببلاد المسلمين يعتبر عاملاً مساعداً وقوياً لتلقي العقول أي فكر وافد يشبع العقل والقلب.
وهناك إشكالية أخرى في نظام التعليم العربي والمستمد في مجمله من الغرب اللاديني، حيث إن نوعية المناهج التي تقدم للجنسين واحدة، في حين أن المهمة المنوطة بكليهما مختلفة، وهنا يأتي دور علماء الأمة وحكوماتها أن تكون هناك مواد مشتركة للدراسة، ثم مواد متخصصة تخص كل نوع من الذكور والإناث لتغطية شغف كل نوع حسب طبيعته التي خلقه الله عليه، وتأهيلًا لكون الفتاة هي أُم المستقبل، والمصنع المسؤول عن تخريج الرجال.
– الإعلام:
يعد الإعلام من أهم وأخطر الوسائل المؤثرة في تشكيل مفاهيم الشعوب، فكل ما يتم التركيز عليه يصنع حالة رأي عام، وتكراره يصنع ثقافة مجتمع خاصة إذا قدمت القيمة الأخلاقية أو المعتقد أو المفهوم في قالب فني جاذب لشباب الأمة وفتياتها.
وقد تعددت القنوات الفضائية المثيرة للجدل بتقديم أنواع من الفنون تحمل مفاهيم تتعارض بشكل كلي مع موروثات الأمة وتقاليدها ومعتقداتها، فصار الزواج الثاني خيانة، وصار الإلحاد تنويراً، وصار الخروج على القيم الثابتة تقدماً.
ومعظم الأعمال الفنية تقوم على الإسفاف وتسطيح القيم الأخلاقية الدينية، هذا غير البرامج الملوثة والمقدمة على مدار الساعة لمن يسمونهم بالمثقفين، وما هم في حقيقتهم إلا ملوثون بأدران العولمة وخدم لها بدراية أو بغير دراية.
كيف تساهم الثقافة الإسلامية في مواجهة الإلحاد؟
يدور الإلحاد في حلقة مفرغة حول الشهوات والشبهات والحرية المزعومة في فعل كل ما يريده الإنسان لإشباع غرائزه، دون رقابة إلهية أو بشرية، وتلك الأفكار تجد قبولاً عند بعض الشباب الذين فقدوا هويتهم حين فقدوا الملاذ الأسري الآمن.
ومحاصرة الإلحاد تتمحور حول مواجهة الثقافة الواردة والقيام بعملية انتقاء تتلاءم مع مبادئ ديننا الإسلامي، فبالرغم من القوة الظاهرة للثقافة الغربية اليوم بما تشمله من عقيدة تخالف الدين، فإن القوة التي يحملها الإسلام قوة جبارة تتعدد روافدها لتشمل كافة مناحي الحياة الإنسانية التي تضمن النجاح الباهر إن هو استجاب بشكل كامل؛ الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، الخارجية والداخلية، نظام شامل كامل متجدد ومرن ليلائم كل عصر دون أن تختل ثوابته.
إن المسلم سليم العقيدة لا يخشى مواجهة أي فكر وافد، لكن الخوف على أبناء بغير رعاية، فلتكن هناك مؤسسات لفتح قنوات فضائية تربوية، وإنشاء صفحات لتقديم الإسلام بشكل صحيح، وتفعيل دور المساجد، وإيجاد حلول للمرأة المعيلة والمرأة التي تحتاج للعمل للتفرغ لتربية أبنائها، وتعويض المنتج التعليمي بالمؤسسات التعليمية البديلة بمواد تربوية تصلح لإعداد أمهات وآباء.