لمَّا أَنْظَرَ الله إبليس إلى يوم الوقت المعلوم، واستوثق إبليس بذلك، أخذ في المعاندة والتمرد، فــ{قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ ۖ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)} [سورة الأعراف]. إن إبليس توعَّدنا بالإتيان من أربع جهات (أمام، خلف، يمين، شمال) مع أن الجهات ستٌّ (بإضافة جهتين: فوق، تحت)، قال الإمام النسفي: “ولم يقل من فوقهم ومن تحتهم لمكان الرحمة والسجود”. والواقع أنه لو أحاط إبليس بنا من كل ناحية -كإحاطة السوار بالمِعْصَم- لهلكنا، ولهلك الحق من قديم، ولهذا فإن {مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [سورة البقرة 81]، ومعنى أحاطت به خَطِيئَتُهُ: اسْتَوْلَتْ عَلَيْهِ وَأَحْدَقَتْ بِهِ مِنْ كُلّ جَانِب، وهو من وافى يوم القيامة وليست له حسنة بل جميع أعماله سيئات، ولا يكون هذا إلا في خطيئة الشِّرك؛ فإن من معه الإيمان لا تحيط به خطيئته.
عودة إلى كلام الإمام النسفي الذي يشير إلى أن الرحمة تتنزَّل من الله من جهة فوق، وهي سبب السماء، والسجدة يتقرَّب بها العبد إلى ربه من جهة تحت، وهي سبب الأرض؛ ويكأنَّ الرحمة على قدر السجود، والإمداد على قدر الاستعداد.
وسنة الله الماضية أنه في كل معركة (عسكرية أو سياسية أو غيرهما) مع أولياء إبليس من الإنس أو الجن، قد يحاصرنا العدو من جوانب كثيرة (بما تبلغ معه القلوب الحناجر، ويزَلْزَلُ المؤمنون زلزالا شديدا، فيقولون متى نصر الله، ويظنون بالله الظنونا)، لكنه لا يحيط بنا من كل جانب؛ لأن هذا يستلزم استئصال الكافرين للمؤمنين، كيف؛ وقد ضمن الله ألا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا!
تقريبا كان ما سبق نَصُّ ما كتبته في 16 أكتوبر 2023، أي في بداية معركة طوفان الأقصى (بوست بعنوان: يحاصرنا لكنه لن يحيط بنا)، تفاؤلا بأن الله سيجعل لنا مخرجا.
والصدق أني كنت أستشكل على هذا الطرح أن الباطل قد يحيط بالحق في بعض الحالات، بما يفضي إلى هلاك الجماعة المسلمة، كما حصل مع أصحاب الأخدود (النموذج التاريخي الأشهر في هذا السياق)، بل كما حصل مع بعض الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-، منهم من قتله قومه كيحيى وزكريا، ومنهم من أخرجوه من بين أظهرهم مهاجرا كإبراهيم. وما الذي يمنع من أن نواجه نفس مصيرهم؟! خاصة وأن الظروف الجيوسياسية لقطاع غزة مثالية للإحاطة بمشروع المقاومة من كل جانب، وهي نقطة ضعف غزة المميتة (كعب أخيل) التي تراهن عليه “إسرائيل” وحلفاؤها.
كنت أورد هذا الاستشكال على نفسي، وفي الوقت نفسه كان يتملَّكني يقين -كيقين عجائز غزة- أن ذلك لن يكون، كنت أشعر أننا نشكَّل استثناء، لم أكن آنذاك أستند إلى دليل بعينه، بل أستند إلى النصوص التي تبشِّر الذين آمنوا بالنصر في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، بالرغم من إدراكي أن عموم هذه النصوص يُرَاد به بعض الذين آمنوا لا جميعهم، أو أن المراد بالنصر لا يقتصر على أن يغلب المؤمنون الكفار، بل له صور أخرى مثل: أن يوقع الله الكفار في سوء عاقبة، أو أن يسلِّط عليهم من ينتقم منهم بمثل أو أشد مما ظلموا به المؤمنين، وهذا قد يحصل في حضرة المؤمنين أو في غيبتهم أو حتى بعد موتهم.
بالرغم من شهرته لكن غاب عني ما يتضمَّنه حديث الطائفة المنصورة من دلالات تبشِّر بأن نتنياهو وحلفاءه لن يحققوا أهداف الحرب على النحو الذي يريدون. عن معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنهما-، قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: “لا يَزالُ مِن أُمَّتي أُمَّةٌ قائِمَةٌ بأَمْرِ اللَّهِ، لا يَضُرُّهُمْ مَن خَذَلَهُمْ ولا مَن خالَفَهُمْ، حتَّى يَأْتِيَهُمْ أمْرُ اللَّهِ وهُمْ علَى ذلكَ” (متفق عليه)، وفي رواية: “ما يَضُرُّهُمْ مَن كَذَّبَهُمْ” (صحيح البخاري).
الشاهد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بشَّر هذه الطائفة بأنه لا يضرها من كذَّبها ولا من خالفها ولا من خذلها، لكن كيف يمكن تفسير هذه البشارة النبوية في ضوء ما تتعرَّض له هذه الطائفة -ولا بد- من ابتلاءات ومحن في مسيرة المدافعة بين الحق والباطل؟!
كان الإمام التُّورِبِشْتِي الحنفي (ت: ٦٦۱هـ) ممن يرى أن مقرَّ الطائفة المنصورة بالشام، وقد عاصر واقعة التتار (التي كما يقول السبكي في “طبقاته الكبرى” أوجبت عدم المعرفة بحاله)؛ الأمر الذي دعاه إلى التساؤل عند الغزو المغولي للشام بعد استيلائهم على بغداد: “فإن قيل: ما وجه هذا الحديث، وما في معناه من الأحاديث التي وردت في الشام، وقد عاثت الذئاب في القطيع، وعبرت الجنود العاتية عن الفرات، وأباحت على ما وراءه من البلاء كنبيح وسروج وحلب وما حواليها؟”، ورأى أن النفي محمول على كلِّ الضرر لا على أصله، فالنبي “إنما أراد بقوله: لا يضرهم، كل الضرر”، وأيَّد قوله بأنه “قد أضرَّ الكفار يوم أحد بأصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولما كانت العاقبة للتقوى لم يعد ذلك ضرر عليهم”. ومما يؤيد كلامه روايات الحديث الأخرى التي حدَّدت قدر الضرر الذي سيصيبهم باللأواء، “لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ إِلَّا مَا أَصَابَهُمْ مِنْ لَأْوَاءَ” (مسند أحمد)، ومعنى اللأواء الشدة وضيق المعيشة، وهي بهذا المعنى بعض الضرر لا كله. ونظير ذلك قوله تعالى: {لَن یَضُرُّوكُمۡ إِلَّاۤ أَذࣰىۖ} [آل عمران: 111].
إذن، سينال الطائفة المنصورة بعض الضرر، ولن ينالها كل الضرر، لكن لماذا؟
إن كل الضرر معناه إحاطة العدو بهذه الطائفة من كل جانب، الأمر الذي يوجِب هلاكها، وهذا ممتنع؛ لأن فيه تكذيبا لخبر المعصوم -صلَّى الله عليه وسلم- الذي يبشِّر أن الحق لا ينقطع في أمة الإسلام، فهناك من يتوارثه جيلا بعد جيل، ولهذا لا يزال في الأمة طائفة على الحق، حتى يأتي أمرُ اللهِ، وهي الريح الطيبة تكون قبل قيام الساعة تقبض أرواح المؤمنين.
ثم إن الطائفة المنصورة هي غياث الأمم في التِّياث الظُّلَم، ورمق المقاومة الأخير في وجه الباطل، وإن هلاكها يعنى الهيمنة التامة للباطل، وهذا أيضا ممتنع؛ لأنه يستلزم فوات سنة المدافعة بين الحق والباطل، والتي تقتضي وجود حقٍّ (وإن ضَعُف) وباطل يتدافعان.
ويمكن القول بأن الباطل قد يضر كل الضرر بالمؤمنين في بعض الحالات وفي كثيرها أيضا، لكن ليس في جميعها في الزمان الواحد، لأن هذا يلزم منه لوازم باطلة شرعا.
في ضوء ما سبق، إن إرجاع البصر مرتين في صفات الطائفة المنصورة المذكورة في الحديث برواياته المتعددة يهدي إلى الاعتقاد بأن المقاومة الإسلامية في فلسطين جزء أصيل من هذه الطائفة في هذا الزمان خاصة فيما يتعلق بفريضة الجهاد في سبيل الله، ولست مبالغا إن قلت إنهم طليعة هذه الطائفة في الأمة.
وهذا الاعتقاد نابع بالدرجة الأولى من تحقِّق مناط الطائفة المنصورة فيهم، وليس من الروايات التي تحدِّد مكانهم بالشام أو بيت المقدس وأكناف بيت المقدس؛ إذ المراد بهذه الروايات وجود هذه الطائفة في الشام في بعض الأزمنة، كما سيكون ذلك في آخر الزمان، عند خروج الدجال ونزول عيسى ابن مريم -عليه الصلاة والسلام-.
بناء على ذلك؛ فإن العدو الصهيوصليبي مهما اقترف من حرب إبادة بيولوجية وإنسانية فلن يضرنا كل الضرر، ولن يحيط بنا، ولن يحقق كل أهداف الحرب؛ لأن هذا لو حصل لسقط آخر جيوب الحق في الأمة، وهذا لن يكون بوعد النبي المعصوم.
صحيح أن عدوَّنا ينال منَّا خيرا في بعض الجوانب المهمة، لكن الله سيردُّه بغيظه دون أن ينال خيرا في تحقيق كل أهداف الحرب على النحو الذي يريد؛ ولهذا هو إلى الآن -بعد سنة تقريبا من الحرب- يحقِّق إنجازات تكتيكية ويعجز عن تحويلها إلى إنجازات إسترتيجية.
مما يُشْكِل على ما سبق: أن المقاومة الإسلامية في فلسطين -على أهميتها- تبقى جزءا من الطائفة المنصورة، وليست كل الطائفة، ويجوز شرعا كما يقول ابن حجر: “إخلاء الأرض كلها من بعضهم (الطائفة المنصورة) أولًا فأولًا، إلى أن لا يبقى إلا فرقة واحدة ببلد واحد فإذا انقرضوا جاء أمر الله”. وعليه: فيمكن أن يهلك جزء الطائفة المنصورة الذي فلسطين؛ لأن هلاكه لا يعني خلو الأرض منها.
غير أن مما يبشِّر ببقاء هذا الجزء من الطائفة المنصورة عصيًّا على الانكسار أن مركز الإسلام في آخر الزمان في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، وهذا يستلزم بقاء قائم بالحق في هذه الديار حتى يأتي أمر الله.