في عام 2022م، وأثناء مباريات كأس العالم في قطر، وضع لاعبو المنتخب الألماني أيديهم على أفواههم قبل انطلاق مباراتهم أمام اليابان؛ وذلك احتجاجاً على قرار «فيفا» حظر ارتداء شارة «حب واحد» التي تدعو لدعم حقوق الإنسان بما فيها عدم التمييز ضد المثلية، وكان حظر «فيفا» قد جاء بفعل ضغط قطري؛ لأن القانون القطري يجرم الشذوذ الجنسي الذي يتنافى مع أحكام الشريعة الإسلامية، النموذج القيمي للبلاد، وشهد العالم آنذاك جدلًا واسعًا حول حقوق الإنسان، وإن كان من حق قطر أن تقوم بشيء كهذا، وكانت حجة الرافضين لقرار «فيفا» آنذاك أن هذا اعتداء على القيم الإنسانية المشتركة وحقوق الإنسان العالمية كالمساواة والحرية وعدم التمييز.
من جهة أخرى، فمنذ 7 أكتوبر 2023م، يتعرض الفلسطينيون في قطاع غزة المحاصر لإبادة جماعية بشتى السبل من قتل وتشريد وقصف وحرق لكل مقومات الحياة، ومنع للمساعدات الإنسانية، كل هذا يبث صوتًا وصورة عبر فضائيات العالم، مع ذلك لم تتحرك القيم الإنسانية المشتركة، بل اصطفت دول حقوق الإنسان جوار المحتل المعتدي تدعمه بالعدة والعتاد، والسؤال هنا: كيف تشكلت هذه القيم والحقوق الإنسانية العالمية المشتركة؟ من الذي عولمها، وجعلها الأصل المعياري الذي يحتكم إليه العالم؟
تعني العولمة في أبسط تعريفاتها تقارباً وانفتاحاً يحدث بين النماذج الحضارية الإنسانية المختلفة، لأجل إذابة الفوارق الحضارية بين هذه النماذج وصهرها في قالب واحد وبوتقة واحدة، لكن هذا التعريف يوحي للوهلة الأولى أن كل الفوارق والتمايزات الحضارية يمكن أن تزول لأجل تمام عملية الانفتاح والتقارب والذوبان هذه، في حين أن بعض النماذج يكون الاختلاف بينها جوهرياً، ويعني إزالة مواضع الاختلاف أن ينسلخ النموذج الأضعف في اللحظة الحاضرة من مبادئه وثوابته، وأن ينخلع من ذاته بالكلية.
وقد يظن أيضًا أن ما يحدث هو عملية تفاعل ما بين نماذج متوازنة القوة والثقل من حيث إمكانية التأثير والتأثر، في حين أن الواقع يشير إلى اختلاف ثقل النماذج المتفاعلة ليس من حيث ما يمتلكه كل نموذج فقط، وإنما من حيث لحظة ووقت التفاعل أيضًا، فربما يكون هناك نموذج يمتلك مخزونًا حضاريًا وإنسانيًا ضخمًا، لكنه في اللحظة الحالية يعاني من تراجع سياسي واقتصادي واجتماعي يضر بثقله في موازين القوى العالمية ومن ثم يصبح هو الطرف المستقبل والمتأثر والمستغَل، لأنه إنما يتفاعل كمغلوب ضعيف وليس كغالب أو ند على الأقل.
ومن ثم، فإن العولمة في العالم المعاصر، وما يعانيه من تفاوت في موازين القوى بين النماذج المختلفة يعاد تعريفها باعتبارها سيادة نموذج سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي موحد على الصعيد العالمي، تحدث هذه السيادة عبر تسلط سياسي واقتصادي وعسكري ثم فكري وحضاري يهدف لطمس الآخر وإقصاء ثقافته، لتبقى ثقافة واحدة مهيمنة وغالبة.
حركة استعمارية
والمتأمل في العصر الحديث وواقعنا المعاصر يعلم أن النموذج المعولم هو النموذج الحضاري والقيمي الغربي، وأن عولمته لم تأت نتاج مسار تاريخي طبيعي، وإنما فرض على العالم فرضاً عبر حركة إمبريالية استعمارية غربية مكنتهم من عملية تراكم للموارد، عبر سرقتها ونهبها من شعوبها الأصلية، واستخدامها في تشييد بنية تحتية مادية قوية، وتقدم مادي سريع، ساهم في فرض نموذجهم القيمي بالقوة على العالم، تحت زعم نقل الحضارة لشعوب العالم المتخلف، بالإضافة لرصدهم ميزانيات ضخمة وهائلة للبحوث العلمية والتجارب العلمية ذات الصلة بالمجال العسكري والأمني، للحفاظ على التفوق العسكري.
كما استطاعت المؤسسة العسكرية في الغرب أن تسخر جميع ما يعزز قوتها ونفوذها، حتى أصبحت هذه المؤسسة رمزاً للتفوق الغربي على بقية دول العالم، وقد كانت هذه المؤسسة اليد اليمنى للغرب في غزو العالم واستعماره ونهب خيراته وقمع كل من يقف أمام الإرادة الغربية في الهيمنة والسطو، وفرض نموذجه القيمي.
ثم جاء توظيف الإعلام الغربي وتكنولوجيا الاتصال الحديثة، لنشر المعارف والأفكار والقيم الغربية، كنموذج أسمى يمثل ذروة الرقي والتقدم العالمي، تزامن هذا مع حالة من التراجع يعيشها العالم الإسلامي على كافة مستوياته، وتخل للأمة -طوعًا وكرهًا- عن دورها ومسؤوليتها التاريخية تجاه نفسها والآخرين، كأمة وسطى وكشهداء على الناس، هذا التخلي أصاب النموذج القيمي الحضاري للأمة بالضمور، وجعله كأنما ينتمي إلى عصور غابرة لا تمت لعالم اليوم بصلة، وأصاب العالم بخواء أخلاقي يدفع المسلمون قبل غيرهم ضريبته الآن.
في خضم هذه الظروف شديدة التعقيد، يعد المولد النبوي الشريف ذكرى شديدة المحورية للمجتمعات والشباب المسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ورسالته وسيرته هو رمز شديدة الكثافة للنموذج القيمي الإسلامي الذي ينطلق من التوحيد كقاعدة أساسية للنظرة للكون والإنسان وعلاقتهما بالإله؛ مما يرسخ المرجعية الإلهية المتجاوزة والثابتة للنموذج المسلم.
وهذا النموذج إنما هو يتعارض تعارضًا جوهريًا مع تلك النظرة المادية التي يعتمدها النظام المعولم المعاصر، التي تعتمد الداروينية الاجتماعية كمنهج لتفاعل الأمم والحضارات، بل حتى الأفراد مع بعضهم بعضاً، ومن ثم فلا معنى لما يسمى حواراً أو تقارباً أو انفتاحاً إن كانت هذه هي النظرة الحاكمة، وإنما هو سطو وهيمنة وهو ما تؤكده دلائل الواقع الذي نعيشه كل يوم.
لكن من جهة أخرى، تدفعنا ذكرى المولد النبوي للتفكير وإعادة النظر في دورنا الحضاري الذي تخلينا عنه، وفي وسائل القوة المعنوية والمادية التي فقدتها الأمة أو سلبت منها، فكما كان النبي صلى الله عليه وسلم رسولًا مؤيدًا، فإنه في الوقت نفسه كان إنسانًا قائدًا حكيمًا، خاض بالإسلام والمسلمين معتركات واقعهم آنذاك، نظر وتفكر واستشار وأخذ بالأسباب، فأدى أمانته وبلغ رسالته.
لذا، فإن كان السؤال الذي يلح على عقول المسلمين اليوم هو أنى لهذه الأمة أن تستعيد زمام المبادرة، فمن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون المنطلق.