مناقشة تحدي ذوبان هوية أولاد المسلمين في البلاد غير العربية لا تستبطن جواز الهجرة الطوعية إليها، إنما تتوجه إلى مناقشة الأساليب التي تعين المقيمين فيها من أهلها ومن غير أهلها ممن ألجأتهم إليها الظروف المعلومة سواء السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية، والحديث عن الذوبان لا بد أن يقود إلى السؤال: ما الذي نخشى ذوبانه؟ والذي يتبادر إلى الذهن هو: الهوية، فما الهوية؟
الكتابات بالعربية وبغير العربية عن الهوية لا تكاد تنحصر، سواء تناولتها من جوانب فلسفية أو اجتماعية أو سياسية أو نفسية أو غير ذلك، وبصرف النظر عن الخلاف في تعريفها باختلاف الحقول المعرفية التي تناولتها، أو داخل كل حقل حسب الخلفيات التي ينطلق منها الكتاب، فإننا في هذا المقال غير المتخصص نكتفي بالمعنى الشائع المعروف الذي يعرف الهوية بأنها حقيقة الشيء المطلقة، التي تشتمل على صفاته الجوهريّة التي تميّزه عن غيره.
ولما كان الإنسان ليس كائناً مكتفياً بنفسه منقطعاً عمن حوله، كانت له هويات على مستويات مختلفة؛ فله هوية شخصية ذاتية تجعله هو هو، متميزاً بهويته الشخصية عن غيره، وله هويات اجتماعية متعددة؛ هوية تحدد الملامح الأساسية لمجتمعه القريب الذي يشعر بالانتماء له ويشاركه في حياته اليومية مثل الأسرة أو الأصدقاء المقربين، وهوية تحدد ملامح المجتمع الذي يحمل أوراقه الرسمية وتضمن تماسك أفراده والتفافهم حول رايته، وربما انتمى لكيانات أو مذاهب دينية أو سياسية عابرة للمجتمعات التي ينتمي إليها جغرافياً بسبب هويته الثقافية، قد تتقاطع هذه الهويات، وقد تتعارض، وقد تتغير وربما تتبدل، فما الجوهر الذي ينبغي أن نحرص عليه من بين هذه الهويات المختلفة؟
لا شك أننا خلقنا لنعبد الله وحده، والسبيل لذلك اتباع شريعته التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا الأساس يكون الفلاح في الدارين، إذن الأمر يتعلق بضبط هوياتنا الشخصية والاجتماعية بضوابط الشريعة، وتنشئة الأطفال على ذلك، وحمايتهم مما يصرفهم أو يجتالهم عنها، والسؤال: ما الخطوات العملية؟
أولاً: حماية الهوية الشخصية:
الهوية الشخصية تقوم على جوانب لا يد للناس فيها، وهي الجنس والعرق واللون والملامح، والمطلوب أن ينشأ الطفل على الاعتقاد بأنها اختيار الله تعالى لنا، وحسبنا أنها اختيار الحكيم الخبير اللطيف الودود، وليس للإنسان أن يسخط أو يسعى في تغييرها أو التملص منها، وهي ليست مما يتفاضل ويتميز به الناس، إذ قيمة المرء ما كسبت يداه لا بالهيئة التي صور عليها.
وفي الهوية الشخصية جوانب أخرى بعضها ظاهر باد، وبعضها يكشفه التعامل مع الناس، ومنها ما يترك فيه الأمر لكل أحد حسب تفضيلاته الشخصية ما دام ملتزماً بالتوجيه الشرعي العام مثل الاسم والملبس والطعام وغير ذلك، والواجب في هذا الجانب ألا نكتفي باختيار الطعام والملابس للأطفال، بل ينبغي أن يعلموا الأحكام المتعلقة بها في سن مبكر على النحو الذي يمكنهم استيعاب الأحكام به، وتعريفهم بسبل الحصول على الحكم الشرعي الصحيح حسب أعمارهم، سواء كان ذلك بربطهم بجهة إفتاء أو موثوقة أو مركز علمي أو نحو ذلك.
ومن جوانب الهوية الشخصية ما يرتبط بالانتماء للدين لكنه يتجاوز أداء الشعائر والالتزام بالسمت العام للمسلم المستقيم إلى العبادات القلبية والفعلية التي ترتبط بانتمائه للمسلمين، مثل الولاء والبراء والنصرة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتعامل مع هذا الجانب الشخصي يشترك مع ينطبق عليه ما يقال في الحفاظ على الهوية الاجتماعية.
ثانياً: حماية الهوية الاجتماعية:
الهوية الاجتماعية هي التي تشبع في الإنسان الحاجة إلى الانتماء، وهي التي تجعل للحياة قيمة تتجاوز السعي في سبيل الحصول على الطعام والشراب، الإنسان يحتاج إلى الاعتزاز بالانتساب لشيء، والدفاع عنه، والموالاة والمعاداة عليه، وعلى أساسه يفاضل بين البدائل مما هو متاح، بل يتحلى بأخلاق وعادات ترتبط بما يشعر بالانتماء إليه، وقد يكون هذا الانتماء لعرق أو لفكرة أو لمهنة أو للعبة أو فريق رياضي أو غير ذلك، وقد يكون للمرء عدد من الانتماءات لكن غالباً ما يكون له انتماء أعلى يحكم معايير انتماءاته الأخرى شعر بذلك أم لم يشعر.
أهم ممسكات الهوية الاجتماعية العقيدة واللغة والتاريخ والكيانات الرسمية الراعية للمصالح، أما العقيدة فعنوان المقال يحسم الأمر ويبين أن المعنيين بهذا الكلام هم الحريصون على الهوية الإسلامية، الراغبون في تجذيرها في نفوس أطفالهم.
أما اللغة فهي الأساس الذي يقوم عليه البناء كله، وهي النسيج الضام الذي يمنح الجسم المتانة ويحافظ على الهيكل، وقد أثر عن أئمة الفقه كراهة الحديث بغير العربية لمن يعرفها بغير حاجة، ولعل أشهر ما قيل عن أهمية اللغة عبارة توماس كارليل في كتابه «عن الأبطال.. تعظيم البطل والبطولة عبر التاريخ»: «إن قيل لنا: أيها الإنجليز تنازلوا عن الإمبراطورية الهندية أو عن شكسبير، سيقول المسؤولون كلمتهم بلغتهم المهنية بالتأكيد، لكننا يجب ألا نتردد في قول: بالإمبراطورية الهندية أو بدونها، لن نكون بغير شكسبير، ستذهب الإمبراطورية يومًا ما لهذا السبب أو ذاك، لكن شكسبير باق لنا، ولن نكون بغيره»، هذا وشكسبير الذي جعل رمزاً على الهوية الثقافية والإرث الحضاري كتب بلغة لا يكاد يفهمها عوام الإنجليز من جيل كارليل!
فاللغة ليست وسيلة للتواصل فحسب يمكن أن نستعيض عنها برسوم أو رموز أو وسائل إلكترونية تمكن من الترجمة ونقل المعاني، بل التواصل هو أقل وظائفها شأناً، فاللغة البشرية تختلف عن لغات الحيوانات ولغات الآلة، لأنها ليست مجرد فعل غريزي أو استجابة آلية تعبر عن الاحتياجات أو تقود لفعل محدد، بل هي خزان الخبرات والتجارب البشرية والعلوم والمعارف المحسوسة وغير المحسوسة، لذلك كانت من أول ما علمه الله تعالى لآدم عليه السلام وفضله به على خلقه، باللغة تكسى الألفاظ بالمعاني، ويجعل للمجردات أطراً ومعالم.
ومن وظائف اللغة البشرية، كذلك، التعبير والتنفيس عما يضطرب في النفس من معان، ومن وظائفها الإيناس والإمتاع، والخداع والإضمار مثلما يحدث في الأساليب التي يستخدمها الساسة والدبلوماسيون.
وقد تبين اللغة جانباً من ملامح الهوية الشخصية، فعند أصحاب اللغة الواحدة لكل قوم لهجتهم، ولكل فئة مصطلحاتها، ولكل طبقة طرائقها في تطويع اللغة، وهذا كله يناقشه علم اللغة الاجتماعي، وللغة سطوة على التفكير والمشاعر، فاللغة تفكير صائت والتفكير لغة صامتة، وقديماً قيل: لسان الفتى نصف ونصف فؤاده.
أما التاريخ فالسبيل إليه اللغة، لأن مناهج رواية وقراءة التاريخ تتعدد، فهو ليس مجرد وقائع تسرد، وكل راوية يحدث بلغته ويؤصل لحضارته، فلا غنى لأبنائنا عن تعلم العربية وإجادتها ليحسنوا قراءة التاريخ ومتابعة الوقائع بلسان ملتهم، وترسيخ ارتباط الطفل بتاريخه وبالعظماء من أهل ملته يجب أن يكون جزءاً مهماً في كل البرامج التربوية، يعقوب عليه السلام لما طلب منه ابنه الصبي أن يفسر له رؤياه عقب له بقوله مربياً له: (وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ) (يوسف: 6)، فقال يوسف الشاب المبتلى عليه السلام لصاحبي السجن وهو يدعوهما قبل أن يعبر رؤياهما: (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِـي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللّهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ) (يوسف: 38).
يجب أن يستشعر الطفل أنه جزء من سلسلة صالحة تخترق الزمان وتتجاوز المكان، يجمعها اتباع أمر الله تعالى، وتقطع الأوقات باستشعار فضل الله الهادي إلى سبيل الرشاد.
أبرز مثال لتذويب هوية أمة كاملة هو تغيير الحرف العربي واستبدال الحرف اللاتيني به بعد سقوط الخلافة، فانقطع الناس عن تراثهم وتاريخهم، وسهل تذويبهم وإعادة تشكيلهم، وما يزال أثر هذا الفعل باقياً رغم مرور قرن كامل، وما يزال الناس هناك يجدون مشقة بالغة في تعلم العربية والدين ومعرفة تاريخهم عن طريق الاطلاع المباشر على مصادره الموجودة بين أيديهم.
علِّموا أولادكم العربية وبالغوا في الحرص على ذلك، ولا تكتفوا بتعليمهم قواعدها وإملاءها، بل شبّعوهم بمنتوجها الأدبي وحفظوهم الشعر، وأعينوهم على سبر غورها، والحرص على الكلام بها، والتسابق في التضلع منها، وجنبوهم الكتابات الرديئة في الوسائط والجرائد وغيرها.
أما الكيانات المسجلة في المهاجر المختلفة فهي مهمة؛ لأن المحافظة على الهوية ليست فعلاً فردياً ولا أسرياً، بل لا يمكن أن يتم إلا في مجتمع متماسك، ولو كان مجتمعاً افتراضياً يتواصل فيه الناس عن بُعد، ولأن مهددات الهوية قد يحتاج في مواجهتها لأساليب قانونية أو نحو ذلك حسب كل بلد، وكل مجتمع.