من العوائق التي تقف في طريقنا إلى الله تعالى «الفتور»، ونقصد به ذلك الداء الذي يصيب البعض منا، فينتج عنه الكسل والتراخي والتباطؤ، وقد تصل الحال إلى الانقطاع أو السكون بعد النشاط الدائب والحركة المستمرة.
وقد امتدح الله تعالى ملائكته بأن برأهم من هذا الداء، فقال تعالى: (وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِندَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ {19} يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ) (الأنبياء).
أسباب الفتور
أسباب الفتور كثيرة، نقتصر على أكثرها شيوعاً، وهي على هذا النحو:
– الغلو والتشدد في الدين:
الانهماك في الطاعات وحرمان البدن من حقه في الراحة يؤدي إلى الضعف والسأم والملل، مما يؤدي إلى الانقطاع والترك، بل ربما أدى ذلك إلى سلوك طريق آخر عكس الطريق الذي كان عليه المسلم، فينتقل من الإفراط إلى التفريط، ومن التشدد إلى التسيب، وهذا أمر بديهي إذ للإنسان طاقة محدودة فإذا تجاوزها اعتراه الفتور فيكسل أو ينقطع، ولعل ذلك هو السر في تحذير الرسول صلى الله عليه وسلم ونهيه الصريح عن الغلو والتنطع، قال صلى الله عليه وسلم: «إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين» (أخرجه النسائي، وابن ماجه)، وقال صلى الله عليه وسلم: «ألا هلك المتنطعون، ألا هلك المتنطعون، ألا هلك المتنطعون» (أخرجه مسلم)؛ والمتنطعون هم المتجاوزون للحدود في أقوالهم وأعمالهم.
وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها امرأة، فقال: «من هذه؟»، قالت: هذه فلانة تُذكر من صلاتها، فقال: صلى الله عليه وسلم: «مه، عليكم بما تطيقون، فوالله لا يمل الله حتى تملوا، وكان أحب الدين ما داوم صاحبه عليه»، وكان يقول صلى الله عليه وسلم: «اكلفوا من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا، وإن أحب العمل إلى الله أدومه وإن قلّ» (متفق عليه).
– الإسراف ومجاوزة الحد في المباحات:
هذا من شأنه أن يؤدي إلى سيطرة الشهوات، وبالتالي إلى التثاقل، والكسل والتراخي، إن لم يكن الانقطاع والقعود، ولعل هذا هو السر في النهي القرآني عن الإسراف، قال تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأعراف: 31)، وكذلك نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن الإسراف حينما قال: «ما ملأ آدمي وعاء شرًا من بطنه، بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة، فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه» (رواه الترمذي، وابن ماجه).
– إيثار حياة العزلة والانفراد:
الطريق إلى الله تعالى طويلة الأبعاد، متعددة المراحل، كثيرة العقبات في حاجة إلى تجديد، فإذا سارها المسلم مع الجماعة، وجد نفسه دوماً متجدد النشاط، قوى الإرادة، صادق العزيمة، أما إذا انفرد وانعزل؛ فإنه يفقد من يجدد نشاطه، ويقوي إرادته، ويحرك همته، ويذكره بربه فيسأم ويمل، ومن ثَم تراخى وتباطأ.
ولعل هذا هو بعض السر في قوله تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (آل عمران: 103)، ومن وصاياه صلى الله عليه وسلم: «عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد، من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة» (أخرجه الترمذي، وأحمد).
– نسيان الموت والدار الآخرة:
ذلك من شأنه أن يؤدي إلى فتور الإرادة، وضعف العزيمة، وبطء النشاط والحركة، بل قد يؤدي إلى التوقف والانقطاع، ولعلنا في ضوء هذا نفهم الحكمة من أمره صلى الله عليه وسلم بزيارة القبور بعد النهي والتحذير، حيث يقول: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها، فإنها ترق القلب، وتدمع العين، وتذكر الآخرة» (رواه أحمد).
– إغفال عمل اليوم والليلة:
مثل النوم عن الصلاة المكتوبة بسبب السهر الذي لا مبرر له بعد العشاء، ومثل إهمال بعض النوافل الراتبة، وترك قيام الليل، أو صلاة الضحى، أو تلاوة القرآن، أو الذكر، أو الاستغفار، أو عدم حضور الجماعة بدون عذر، فكل ذلك وأمثاله له عقوبات، وأدنى هذه العقوبات: الفتور والكسل.
وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه إلى شيء من هذا فقال: «يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد: يضرب كل عقدة، عليك ليل طويل فارقد، فإن استيقظ وذكر الله انحلت عقدة، وإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقدة، فأصبح نشيطاً طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان» (متفق عليه).
– الاقتصار على بعض الإسلام:
كأن يجعل جُل اهتمامه بالعقيدة فحسب، ملغياً كل شيء غيرها من حسابه، أو يجعل همه الشعائر التعبدية، تاركاً كل ما سواها، أو يقتصر على فعل الخيرات ورعاية الآداب الاجتماعية، ولا يلتفت إلى سواها، فهؤلاء تأتى عليهم أوقات يصابون فيها بالفتور، وهذا أمر بديهي؛ ذلك لأن الإسلام يستوعب الحياة كلها، فإذا اقتصر المسلم على بعضه فكأنما أراد أن يحيا بعض الحياة، لا كل الحياة، ثم إذا بلغ الذروة في هذا البعض يتساءل: وماذا بعد؟ فلا يجد جواباً سوى الفتور والتوقف.
ولعل هذا بعض أسرار قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ) (البقرة: 208)؛ أي اعملوا أيها المسلمون بجميع شعب الإيمان، وشرائع الإسلام، ولا تسيروا خلف الشيطان، فإنه لكم عدو فيصرفكم عن منهج الله بالكلية، أو عن بعضه فتفتروا وتضيعوا.
– مصاحبة ذوي الهمم الضعيفة:
لا يخفى على أحد أثر الصاحب في صاحبه، ومن الأقوال المتداولة بين الناس «الصاحب ساحب»، ولعل هذا هو سر تأكيده صلى الله عليه وسلم على ضرورة انتقاء واصطفاء الصاحب، إذ يقول: «المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل» (رواه أبو داود، والترمذي).
– الوقوع في الذنوب والاستهانة بصغائرها:
الفتور هو النتيجة الطبيعية لارتكاب الذنوب، قال تعالى: (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ) (الشورى: 30)، وقد حذَّر الرسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك فقال: «إياكم ومحقرات الذنوب فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه» (أخرجه الطبراني بإسناد صحيح)، وقال صلى الله عليه وسلم: «إن المؤمن إذا أذنب ذنباً كانت نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب، ونزع، واستغفر صقل منها، وإن زاد زادت حتى يغلف بها قلبه، فذلك الران الذي ذكر الله في كتابه: كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ» (الترغيب والترهيب).
علاج الفتور
يكمن علاج الفتور فيما يلي:
1- البعد عن المعاصي والسيئات كبيرها وصغيرها، فإنها نار تحرق القلوب، وتبعد المسلم عن طريق ربه تعالى.
2- المواظبة على عمل اليوم والليلة، من ذكر ودعاء وضراعة، واستغفار، وقراءة قرآن، وأداء النوافل، فإن ذلك كله مولد إيماني جيد، ينشط النفوس ويحركها ويعلى الهمم، ويقوى العزائم.
3- البعد عن التشدد والغلو في دين الله، فإن ذلك مما ينشط ويساعد على الاستمرار، وهذا لا يعني الترك والإهمال، بل يعني الاقتصاد والتوسط والاعتدال مع المحافظة على ما اعتاده المسلم من العمل.
4- صحبة الصالحين المجاهدين من عباد الله، إذ إن هؤلاء لهم من الصفاء النفسي والإشراق القلبي، والإشعاع الروحي، ما يحرك الهمم والعزائم.
5- دوام النظر والمطالعة في كتب السيرة والتاريخ والتراجم، فإنها مشحونة بكثير من أخبار العاملين المجاهدين، أصحاب العزائم القوية والإرادات الصادقة التي تولد في النفس حب الاقتداء والتأسي.
6- تذكر الموت وما بعده من حساب وجزاء، فإن هذا مما يوقظ النفس من نومها، وينبهها من غفلتها، فتنشط وتتابع السير، وخير وسيلة لتذكر الموت زيارة المقابر.
6- حضور مجالس العلم، إذ العلم حياة القلوب وربما سمع المسلم كلمة من عالم صادق مخلص، فنشطته سنة كاملة.
_________________________
1- مدارج السالكين، ابن القيم.
2- آفات على الطريق، د. السيد نوح.
3- العوائق، محمد أحمد الراشد.
4- الرقائق، محمد أحمد الراشد.