في إطار حاجة الأمة لمن يجدد لها أمر دينها نسوق جملة من الأخلاق التي يجب أن تكون أسساً راسخة للداعية كسلوك وأخلاق كي ينجح فيما تصدى له من تبليغ لدين الله، ودفع الناس للالتزام به، وتنويرهم بتعاليمه، وحثهم على العمل بأحكامه لتعود الأمة لسالف مجدها.
والداعية الذي تصدى لأعظم مهمة يجب عليه أولاً أن ينطلق من قاعدة «الاهتمام لأمر الأمة والمسلمين جميعاً»، وإلا فما المحرك الأساسي له إن لم يكن همه الأول أمته بجميع أفرادها وأحوالها وهمومها، وعلى علم بما يدور حوله من أحداث جسام مهما كانت البلاد بعيدة عن موطنه الذي يعيش فيه؟!
فالمسلم في الشرق يوجعه ألم المسلم في الصين والهند وأمريكا وأوروبا وهم في ذلك أخوة، يقول الله تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ ويُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة: 71).
اهتمام النبي بأمر المسلمين
يجب على الداعية تأليف قلوب الناس وتجميعهم، ولن يتحقق ذلك إلا بالاهتمام بأمرهم ومعرفة أخبارهم، وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على التحاب والتواد والتعاطف، فقال: «مثل المؤمنين في توادِّهم وتعاطُفهم وتراحمهم؛ مَثَلُ الجسد إذا اشتكى منه عضوٌ، تَدَاعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى» (رواه مسلم)، ويقول صلى الله عليه وسلم: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا» (رواه البخاري، ومسلم).
ولم يتوقف اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم على المؤمنين في زمانه، وإنما امتد اهتمامه بهم في كل عصر ومصر، فيروي أبو هريرة، أنَّ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ خرجَ إلى المقبَرةِ، فقالَ: «السَّلامُ عليكُم دارَ قومٍ مُؤمنينَ، وإنَّا إن شاءَ اللَّهُ بِكُم لاحقونَ، وَدِدْتُ أنِّي قد رَأيتُ إخوانَنا»، قالوا: يا رسولَ اللَّهِ، ألَسنا إخوانَكَ؟ قالَ: «بل أنتُمْ أصحابي وإخواني الَّذينَ لم يَأتوا بعدُ وأَنا فرَطُهُم على الحَوض..» (صحيح النسائي).
ومن مظاهر اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بالمسلمين في زمنه أنه كان يتحمل عن المسلم الذي مات مديوناً دينه فيسده عنه، ويروي أبو هريرة أنه قال، كان يقول عليه الصلاة والسلام: «أنا أَولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن مات وعليه دَيْن فعلينا قضاؤه، ومن ترك مالًا فلورثتِه» (رواه البخاري).
وقد كان عليه الصلاة والسلام أكثر انشغالاً بأمر الدعوة، وكان لا يمنعه ذلك عن زيارة المريض، وشهود الجنائز، ومشاركة مناسباتهم الاجتماعية وملاطفة صغارهم، علاوة على الاهتمام بفقرائهم وأيتامهم.
ما يجب على الداعية الإلمام به
ومعرفة الداعية العامة بمن حوله وما حوله يجب أن تكون شاملة وحديثة وعلى 3 مستويات:
الأول: مستوى الأفراد الذين هم حقل دعوته: فيدرس الداعية الواقع المحيط به، والمستويات الاجتماعية للأفراد في محيطه؛ من تعليمهم وثقافتهم ومدى اتصالهم بهويتهم التاريخية ومستوياتهم المادية ومشكلاتهم القائمة، وذلك ضروري لمعرفة كنه الخطاب الدعوي الذي سوف يخاطبهم به، فليس من المعقول أن الخطاب يكون واحداً للمتعلم والأمي على السواء، وليس معقولاً أن من مشكلته لقمة عيشه اليومية يتعامل بنفس المستوى مع من همه تغيير حال الأمة من الوهن إلى المجد.
أيضاً معرفة المريض والمحتاج والمشاكس والراغب بصدق في التعلم والفهم والعمل، كذلك الحديث مع تارك الصلاة والصوم والزكاة، مع ملتزم بالصلاة في المسجد غير أنه يفوت بعض الصلوات، والحديث مع المحجبة المقصرة، ليس كالحديث مع المتبرجة التي تنكره بالجملة، والحديث إلى الزوجة المقصرة ليس كالحديث مع الفتاة غير البارة بأبويها وهكذا.
ولذلك فيجب أن يلم الداعية بشيء من علم النفس، ويتعرض لتجارب الآخرين ليتعلم ويبحث ويسأل عن أقصر الطرق لبلوغ النفوس والتأثير عليها ويخاطب الناس بما يفهمونه.
الثاني: معرفة مشكلات المجتمع: فهناك مشكلات الفقر، ومشكلات قطع الأرحام، ومشكلات منع الإرث عن المرأة، ومشكلات الظلم السائد في بعض المجتمعات العربية وغيرها من المشكلات مثل العادات والتقاليد والموروثات البالية التي صارت أخلاقاً وسلوكاً من دون الأخلاق الإسلامية.
الثالث: معرفة حال الأمة: الداعية غير منفصل عن واقع الأمة، بل هو جزء منها، ويدعو الناس للاهتمام بشأنها، لذلك يحتاج الداعية إلى دراسة بعض العلوم ومنها(1):
– علم التاريخ: ليعرف الفساد في العقائد والأخلاق والعادات.
– علم الأخلاق: الذي يبحث عن الفضائل النفسية وكيفية تربية المرء عليها.
– معرفة الملل والنحل ومذاهب الأمم فيها: ليتيسَّر للداعي بيان ما فيها من الباطل.
– علم النفس: ليكون الداعية على معرفة بهوى النفس وميولها واتِّجاهاتها ومدى تأثيرها في المجتمع.
– علم الاجتماع: الذي يبحث فيه عن أحوال الأمم في بداوتها وحضارتها، وأسباب ضعفها وقوَّتها وتأخيرها وتقدُّمها.
– العلم بلغات الأمم المراد دعوتها إلى الإسلام؛ فعلى الداعية إلى الله تعالى أن يكون عارفًا بلغة القوم الذين يدعوهم إلى الإسلام؛ «ومن تعلَّم لغة قوم أمن شرَّهم».
إن إعداد الدعاة القادرين على إحداث تغييرات كبرى في حياة المسلمين أصبح واجباً على كل فرد إن لم يقم به جماعة تكفي المسلمين تلك الفريضة بالامتثال لأمر الله بتبليغ دينه، والله عز وجل لم يخلق المسلمين ليكونوا جزراً منعزلة، بل أمرهم بالتوحد والاستقواء به سبحانه والاعتصام بحبله المتين ليكونوا قوة تحترم بين الأمم تقود ولا تقاد، والمسلم الحقيقي إنما هو جزء من كل، يألم لألم الناس ويهتم لأمرهم ويواليهم من دون غيرهم لتحدث اللحمة المطلوبة للمجتمع المسلم، والداعية أحق الناس بكل هذا، فهو الأسوة والقائد والمحرك.
_________________________
(1) د. عبدالقادر سيد عبدالرؤوف، له مجموعة من المؤلفات، أهمها: أثر الحضارة الإسلامية في المجتمعات الإنسانية.