أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء، عن أبي جعفر محمد بن علي، وكان ورّاقًا، لأبي زرعة الرازي الإمام الكبير من أهل الحديث، قال: حضرنا أبا زُرْعَةَ وهو في السَّوْق؛ أي عند احتضاره، وعنده أبو حاتم، وَابْنُ وَارَةَ، والمنذر بن شاذان وغيرهم، فذكروا حديث التلقين «لقنوا موتاكم لا إله إلا الله»، واستحيوا من أبي زرعة أن يلقنوه، فقالوا: تعالوا نذكر الحديث، فقال ابن وَارَةَ: حدثنا أبو عاصم، حدثنا عبد الحميد بن جعفر عن صالح ابن أبيّ، وجعل يقول ابن أبيّ، ثم سكت ولم يجاوزه.
ثم قال أبو حاتم: حدثنا بُندار، حدثنا أبو عاصم، عن عبدالحميد بن جعفر، عن صالح، ثم سكت ولم يجاوزه، وسكت الباقون، ففتح أبو زرعة عينيه، وقال: حدثنا بُندار، حدثنا أبو عاصم، حدثنا عبدالحميد عن صالح ابن أبي غريب عن كَثير بن مُرّة عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة»، ثم خرجت روحه رحمه الله(1).
في هذا الموقف تجسيد لحسن الخاتمة، وتشويق للوصول إليها، ومن أعظم ما تصنع به الخاتمة الحسنة ما يأتي:
أولاً: الاستقامة على العمل الصالح:
إن الله تعالى هو الذي يتوفى عباده، حيث قال تعالى: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ) (النحل: 70)، وقال عز وجل: (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) (السجدة: 11)، والله الذي يتوفى عباده هو الذي أرشدهم إلى ما ينبغي أن يفعلوه من أجل تحسين خاتمتهم، إذ الأعمال بالخواتيم، ويبعث المرء على ما مات عليه.
وقد أوضح الله تعالى لعباده أن الاستقامة على العمل الصالح سبيل إلى الأمن من سوء الخاتمة، وعدم الخوف أو الحزن منها، حيث قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) (فصلت: 30)؛ والاستقامة هي الالتزام بطاعة الله عز وجل، وهي تشمل استقامة القلب والجوارح، ففي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ أَنَسٍ، أن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ»؛ قال ابن رجب: وَالْمُرَادُ بِاسْتِقَامَةِ إِيمَانِهِ: اسْتِقَامَةُ أَعْمَالِ جَوَارِحِهِ، فَإِنَّ أَعْمَالَ جَوَارِحِهِ لَا تَسْتَقِيمُ إِلَّا بِاسْتِقَامَةِ الْقَلْبِ، وَمَعْنَى اسْتِقَامَةِ الْقَلْبِ أَنْ يَكُونَ مُمْتَلِئًا مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ، وَمَحَبَّةِ طَاعَتِهِ، وَكَرَاهَةِ مَعْصِيَتِهِ(2).
وإن الآية السابقة تؤكد أن الله تعالى يرسل ملائكته للعبد المستقيم على طاعته عند موته فيبشرونه بالخاتمة الحسنة ويعدونه بعدم الخوف والحزن؛ والسر في ذلك أن من اعتاد على فعل شيء فإنه يموت عليه.
ولهذا كان من لطف الله بالمستقيمين من عباده أن يستعملهم في طاعته حتى الموت، ففي مسند الإمام أحمد عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أراد الله بعبد خيراً استعمله»، قالوا: يا رسول الله، وكيف يستعمله؟ قال: «يوفقه لعمل صالح، ثم يقبضه عليه».
ثانياً: سلامة الصدر:
تسهم سلامة الصدر في صناعة الخاتمة الحسنة، ويدل على ذلك ما ثبت عن زيد بن أسلم قال: دخل على أبي دجانة بعض أصحابه وهو مريض، وكان وجهه يتهلل، فقيل له: ما لوجهك يتهلل؟ فقال: «مَا مِنْ عَمَلٍ أَوْثَقُ عِنْدِي مِنْ خَصْلَتَيْنِ: كُنْتُ لَا أَتَكَلَّمُ فِيمَا لَا يَعْنِينِي، وَكَانَ قَلْبِي سَلِيمًا لِلْمُسْلِمِينَ»(4).
وإن سليم الصدر هو الذي يعود ألا ينام ليله إلا بعد أن يبحث في نفسه عن مظالم العباد فيتحلل منها، ذلك أنه يعلم أن نومه يعتبر وفاة، لكنها الوفاة الصغرى، حيث قال تعالى: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الزمر: 42)، فإذا كان المسلم قد هيأ نفسه أنه يموت كل ليلة، وقبل أن يموت يجعل صدره سليماً حتى يصل إلى إرضاء ربه ودخول الجنة؛ فإن الله تعالى يجعل نهايته وخاتمته حسنة.
ثالثاً: الطاعة في السر بإخلاص لله تعالى:
روى البخاري ومسلم عن عبدالله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا».
في هذا الحديث ما يوهم أن الإنسان قد يعمل الصالحات، لكن الله يختم له بخاتمة السوء، وقد يعمل السيئات ويختم الله له بخاتمة حسنة، وفي هذا إشكال يحتاج إلى جواب، وجوابه فيما أكده الإمام ابن حجر العسقلاني، من أن هذه الخاتمة تعتمد على ما يفعله الإنسان من أعمال السر بينه وبين ربه، فقد يكون فاعلاً للطاعة أمام الناس، لكنه في الخلوات عاص لله تعالى، وقد يكون طائعاً لله تعالى في سره وتقع منه بعض الهفوات أمام الناس، فيختم الله تعالى له بما كان منه في سرّه لا علانيته، وهذا عقاب للمنافق والمرائي.
واستدل الحافظ ابن حجر على هذا برواية أخرى للحديث، وفيها: «إن العبد لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ» وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُنَافِقِ وَالْمُرَائِي(4)، فمن كان طائعاً لله تعالى في خلواته؛ كان من فضل الله تعالى عليه أن يختم له خاتمة حسنة.
_________________________
(1) سير أعلام النبلاء: الذهبي (13/ 76).
(2) جامع العلوم والحكم: ابن رجب (1/ 211).
(3) المرجع السابق (1/ 294).
(4) فتح الباري: ابن حجر العسقلاني (11/ 487).