مبدأ الهداية يمثل القصد الرئيس للقرآن الكريم، كما أشار القرآن ذاته ووصف نفسه بأنه قصده هداية الناس إلى الحق، وهداية الإنسان إلى الفطرة والاستقامة بحسب خلقتهم وقابلياتهم المفطورين عليها، ونورد فيما يلي البيئة القرآنيّة لمبدأ الهداية كما وقفنا عليه في آيات القرآن الحكيم: (ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ) (البقرة: 2)، (فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة: 38)، (أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ) (البقرة: 185)، (هَٰذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى) (آل عمران: 138)، (ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ) (الأنعام: 88)، (وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَىٰ عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً) (الأعراف: 52)، (وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَىٰ) (الأعراف: 198)، (هَٰذَا بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى) (الأعراف: 203)، (أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ) (التوبة: 33)، (وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى) (النحل: 64)، (هُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ) (النمل: 2)، (وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ) (النمل: 77)، (هُدى وَرَحمَة لِّلمُحسِنِينَ) (لقمان: 3)، (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى) (فصلت: 44)، (بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى) (الجاثية: 20)، (أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ) (الفتح: 28)، (جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَىٰ) (النجم: 23)، (لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَىٰ) (الجن: 13).
فالهداية ومرادفاتها كما يتضح من تلك الآيات يُقصد بها ثلاثة أمور؛ الأول: وصف القرآن ذاته بأنه هُدى للناس؛ أي يحقق فيهم الهداية، أو أن الناس تسعى لطلب الهداية من القرآن، والثاني: دعوة القرآن إلى الهداية، فغاية القرآن تحقيق الاهتداء إلى طريق الحق وتجنب طرق الباطل في صورها وأشكالها، والثالث: أن الهداية هي غاية رسالة النبوة إلى الناس التي تتحقق عبر القرآن وبالقرآن.
كما أن هذه الهداية (على أوصافها الثلاثة) مقدمة لكافة الخلق: الناس، المؤمنين وغير المؤمنين، الطائعين وغير الطائعين، بل إلى كل العالمين.
في مورد اللغة: الهداية من الهدى، والهدى هديان: هدى دلالة، وهو الذي تقدر عليه الرسل وأتباعهم؛ فأثبت الله لهم الهدى الذي معناه الدلالة، والثاني بمعنى الإرشاد: أي إرشاد المؤمنين إلى مسالك الجنان والطرق المفضية إليها، وهديته الطريق وإلى الطريق أي عرّفته، والهدى: هو الدلالة الموصلة إلى البغية، والهدى: الرشاد والدلالة، وقال آخرون: هو الاهتداء والعلم.
يذكر صاحب «مختار الصحاح» أن «هُدى» ورد في القرآن على ثلاثة أوجه لغوية: معدّى بنفسه: كقوله تعالى: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)، ومعدّى باللام: كقوله تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَٰذَا)، ومعدّى بإلى: كقوله تعالى: (وَاهْدِنَا إِلَىٰ سَوَاءِ الصِّرَاطِ)، وهداه الطريق: أعلمه إياه وعرفه له وأرشده إليه فهو هاد، وهدى له الأمر: بينه له، واهتدى: عرف الطريق وسلكه.
كما ذكر الرازي في قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) (التوبة: 33)؛ أن الهدى: هو الفرقان، وليظهره: أي يعليه على كل دين، وذلك عن طريق الحجة والبرهان والبيان، وأن يوقفه على جميع شرائع الدين ويطلعه عليها بالكليّة حتى لا يخفى منها شيء، وإظهار ما في الدين من الصواب والصلاح ومطابقة الحكمة وموافقة النفع في الدنيا والآخرة.
فالهدى وفق ما تقدم هو: البيان والمعرفة والإرشاد والتوجيه والوسيلة التي توصل إلى البغية أو المقصد.
من ناحية أخرى يرى الأصفهاني أن الله تعالى منح الإنسان 4 هدايات بإثبات القرآن، على الوجه التالي:
1- الهداية التي عمَّ بجنسها كل مكلف بالعقل، والفطنة والمعارف الضرورية التي عمّ منها كل شيء بقدر حسب احتماله كما قال: (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ) (طه: 50).
2- الهداية التي جعل للناس بدعائه إياهم على ألسنة الأنبياء، وإنزال القرآن ونحو ذلك، وهو المقصود بقوله تعالى: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا) (الأنبياء: 73).
3- التوفيق الذي يختص به من اهتدى، وهو المعنى بقوله تعالى: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى) (محمد: 17).
4- الهداية في الآخرة إلى الجنة، المعنى بقوله: (سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ) (محمد: 5).
هذه الهدايات الأربع مترتبة، فإن من لم تحصل له الأولى لا تحصل له الثانية بل لا يصح تكلفة، ومن لم تحصل له الثانية لا تحصل له الثالثة والرابعة، ومن حصل له الرابعة فقد حصل له الثلاث التي قبلها.
الهداية كذلك تتطلب التعليم والبذل، فهذا مبدأ الهداية وإن كان ليس كل من يتعلم أو يبذل تحصل له الهداية، ولكنهما شرطٌ لحصول الهداية التي تحدث بالفعل، وهو ما يترتب عليه القول بأن الإنسان لم يولد وعقله صفحة بيضاء، بل ولِد مزودًا بقابليات الهداية، لكنه يحتاج إلى إرشاد وتوجه وبيان وبرهان كي تنتفض تلك القابليات إلى أصلها وفطرتها في السلوك فيها.
كما تشمل مقاصد الاهتداء في القرآن ما يتعلق بالأمور الدنيويّة والأخرويّة، فالاهتداء يختص بما يتحراه الإنسان على طريق الاختيار، إما في الأمور الدنيويّة، أو الأخرويّة، ويقال: المهتدي لمن يقتدي بعالم، فالاهتداء جملة يكون بطلب الهداية أو الاقتداء، مع تحريها.