الدعاة هم ورثة الأنبياء في طريقهم ومنهاجهم وأهدافهم وكذلك وسائلهم، هم أشرف الخلق حين تخلص نواياهم وتستقيم وسائلهم وفق شريعة رب العالمين.
والله عز وجل أمر نبيه بالتحلي بخلق الصبر في دعوته للناس، فيقول تعالى: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) (الأحقاف: 35)، فأنبياء الله عليهم صلوات الله وسلامه صبروا أمام تكذيب أقوامهم وأذيتهم لخير الخلق واضطهادهم وسخريتهم.
فسيدنا لقمان يعلم ابنه قيمة الصبر في مواجهة الابتلاءات الحتمية التي سوف تلاقيه كما لاقاها كل من ساروا على هذا الطريق فقال تعالى: (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (لقمان: 17)، فكل من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر عليه بالصبر والاستعانة برب العالمين، وتلك سُنة الله ولم يستثن منها أحد، ولأنه ليس بالأمر الهين على النفس، فقد جعل الله له جزاءً أوفى فقال تعالى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (الزمر: 10).
والصبر في حق جميع المسلمين واجب، وفي حق الدعاة إلى الله أكثر وجوباً، يقول تعالى: (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ الله وَلَقدْ جَاءَكَ مِن نَّبَإِ الْـمُرْسَلِينَ) (الأنعام: 34)، وذلك لأسباب منها:
– أن البلاء في حق الدعاة شديد، ولن يتم تحمله إلا بصبر قوي، يقول عليه الصلاة والسلام: «أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يُبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان في دينه صلباً اشتد بلاؤه» (رواه الترمذي).
– الداعية يلزمه الصبر على نفسه أولاً في إعداد نفسه إعداداً كافياً لمواجهة التحديات المعاصرة، ويلزمه الصبر في مواجهة تعنت الناس وإعراضهم عنه، ويلزمه الصبر في تجديد نيته على الدوام ليخرج من دائرة الرياء والشرك الخفي دون أن يدري.
– والصبر من أوامر رب العالمين لعباده، وسبب من أسباب الفوز فيقول سبحانه: (وَالْعَصْرِ {1} إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ {2} إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) (العصر).
– الصبر لازم من لوازم الدعوة باعتباره من الأخلاق التي يجب تعليمها للمدعوين، والداعية قدوة وأسوة حسنة لمن يدعوهم لتتحقق إمامته، ويقول تعالى في ذلك: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَـمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) (السجدة: 24).
– الصبر شرط النصر على العدو، فيقول تعالى: (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيرًا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ) (آل عمران: 186).
أنواع الصبر
1- الصبر على الطاعات، مثل قوله تعالى: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى) (طه: 132).
2- الصبر عن معصية الله، مثل قوله تعالى: (وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْـحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرُ وَأَبْقَى) (طه: 131).
3- صبر على المصائب والمحن، مثل قوله تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْـخَوفْ وَالْـجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) (البقرة: 155).
صور من صبر النبي في دعوته
أكثر من تعرض للأذى في دعوته الأنبياء كما أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم، ولقد لاقى نبينا من تكذيب قريش له وعنتهم معه وتعذيبهم الكثير، والمواقف في ذلك الأمر لا تحصى، ومنها ما رواه البخاري عن عروة بن الزبير قال: قلت لعبدالله بن عمرو بن العاص: أخبرني بأشد ما صنع المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجر الكعبة، إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فأخذ بمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولوى ثوبه في عنقه، فخنقه خنقاً شديداً، فأقبل أبو بكر فأخذ بمنكبه، ودفعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَن يَقُولَ رَبِّيَ الله وَقَدْ جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ».
وقد اشتد الأمر على المسلمين، فقال خباب: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، ولقد لقينا من المشركين شدة، فقلنا: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو لنا؟ فقال: «قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب، فما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون» (رواه البخاري).
طرق اكتساب خلق الصبر(1)
1- معرفة مآلات الصبر وأجره: تزخر آيات القرآن بالحديث عن فضيلة الصبر، وأجر الصابرين العظيم إذا هم تحلوا به، والداعية حين يستذكر تلك الآيات يطمئن قلبه إليها ويركن للصبر في أمره كله مهما أصابه من أذى في سبيل دعوة ربه، يقول تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) (البقرة: 155).
2- الاستعانة بالله عز وجل على مشاق الطريق: فالأمر كله بيد الله، سواء كان الابتلاء أو رفعه عنه وتخفيفه، أو تثبيته في مواجهته، فاللجوء إلى صاحب الأمر هو أقصر الطرق للخلاص والثبات، ومن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط.
3- يقينه بأن الابتلاء هو حظ بني آدم، فليكن لله: وكل بني آدم كتب عليهم البلاء، فمن الناس من يبتلى لسوء خلقه، ومن الناس من يبتلى لسوء عمله، ومنهم من يبتلى لعمله مع الله، فإذا كان الابتلاء قدراً مقدراً على عباد الله، فليكن في سبيل الله ليرجو ثوابه، يقول تعالى: (ما أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِير) (الحديد: 22).
4- ابتلاء الداعية على خطى الأنبياء: سُئِلَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أيُّ الناسِ أشدُّ بلاءً قال: «الأنبياءُ ثم الأمثلُ فالأمثلُ يُبتَلى الناسُ على قدرِ دِينِهم فمن ثَخنَ دِينُه اشتدَّ بلاؤه ومن ضعُف دِينُه ضعُفَ بلاؤه وإنَّ الرجلَ لَيصيبُه البلاءُ حتى يمشيَ في الناسِ ما عليه خطيئةٌ».
5- أن المصيبة ليست في الدين: وبما أن كل إنسان مكتوب عليه قدر من المصائب فليحمد الداعية ربه أن كانت مصيبته في دنياه وليست في دينه، فمن الناس من يبتلى في عباداته، أو في أبنائه، أو في عقيدته، لكن خسارة الداعية دوماً تتعلق بالدنيا من كارهي الدين وأعدائه.
6- أن مصاب غيره أكبر من مصابه: والمسلم في حاله مع الدنيا ينظر دائماً لمن هو أقل منه حالاً، وفيما يتعلق بأمور الآخرة عليه أن ينظر لمن هو أفضل منه، ولو نظر وبحث فسوف يجد دوماً من هو أكثر منه بلاءً، ويعد ذلك تسلية له وتعزية عما يمر به.
7- أن حال الدنيا عدم الثبات، ومع اشتداد البلاء يقترب الفرج: فكم من مصيبة مرت به وقد حسب بعجزه عن مواجهتها أنها باقية، وقد مرت، وهكذا ابتلاءات الدنيا غير دائمة ولا مستقرة.
8- أنه بقدر الصبر على أذى الناس ينال عزاً وشرفاً: وذلك تصديقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً» (رواه مسلم).
9- استحضار معية الله للصابرين: والله عز وجل يقول: (وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (الأنفال: 46).
10- أن يعلم أن النصر قرين الصبر: فيقول تعالى: (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) (آل عمران: 120).
___________________
(1) كتاب موسوعة الأخلاق الإسلامية، بتصرف.