جعل الله تعالى الماء أصل الحياة، فقال عز وجل: (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (النور: 45)، وقال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا) (الفرقان: 54)، وقال سبحانه: (وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ) (الزخرف: 11).
وجعل الله تعالى الماء أصل العمران البشري والبناء الاقتصادي والعمراني فقد قال تعالى: (وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى {53} كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُوْلِي النُّهَى) (طه).
معجزات إلهية
لقد أيد الله تعالى رسله بالماء عند حاجة الأقوام إليه، فأرسل لهم الماء عن طريق المعجزة، حتى يشرب القوم، ومن الأمثلة التي تدل على ذلك ما كان من قوم سيدنا موسى عليه السلام حين طلب القوم منه أن يستسقي ربه، فاستسقى فأيده الله بالماء، وفي هذا يقول تعالى: (وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) (البقرة: 60)، وقال عز وجل: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ) (الأعراف: 160).
كما أيد الله تعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بالماء من أجل سقي الناس، ففي الحديث المتفق عليه عن جابر بن عبد الله قال: حدث «يوم الحديبية» أن عطش الناس والنبي صلى الله عليه وسلم بين يديه ركوة (إناء من جلد)، فتوضأ، فجهش (أسرع) الناس نحوه، فقال: «ما لكم؟»، قالوا: ليس عندنا ماء نتوضأ ولا نشرب إلا ما بين يديك، فوضع يده في الركوة، فجعل الماء يثور بين أصابعه كأمثال العيون، فشربنا، وتوضأنا.
صدقة جارية
من أهم العبادات والأعمال الصالحة التي يجري أجرها للعبد بعد موته سقي الماء، فعن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «سبعٌ يجري للعبدِ أجرُهنَّ وهو في قبرِه بعد موتِه: من علَّم علمًا، أو كرى نهرًا، أو حفر بئرًا، أو غرس نخلًا، أو بنى مسجدًا، أو ورَّثَ مصحفًا، أو ترك ولدًا يستغفرُ له بعد موتِه».
ومما يدل على أهمية عبادة سقي الماء في الصدقة على الميت ما أخرجه النسائي وأبو داود وابن ماجه عن سعد بن عبادة أنَّ أُمَّهُ ماتت، فقال: يا رسولَ اللهِ، إنَّ أمي ماتت، أفأتصدقُ عنها؟ قال: «نعم»، قال: فأيُّ الصدقةِ أفضلُ، قال: «سقْيُ الماءِ».
تدخل صاحبها الجنة
ثبت في سنن أبي داود عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أَيُّمَا مُسْلِمٍ سَقَى مُسْلِمًا عَلَى ظَمَأ، سَقَاهُ اللَّهُ مِنَ الرَّحِيقِ الْمَخْتُومِ»، ولما هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من مكة إلى المدينة اشتكى الصحابة أزمة الماء؛ لأنه لم يكن بالمدينة ماء يستعذب غير بئر رومة، وكانت ليهودي، يبيع الماء بأغلى الأثمان! فاشتكى الفقراء جشع هذا اليهودي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورغب النبي صلى الله عليه وسلم أن لو وجد من بين الصحابة من يشتري بئر رومة ويجعل ماءها للمسلمين.
وقام النبي صلى الله عليه وسلم يعلن رغبته هذه بين الصحابة، كما في الحديث الذي رواه الترمذي بسند حسن قال صلى الله عليه وسلم: «من يشتري بئر رومة، ويجعل دلوه مع دلاء المسلمين، وله بها عين في الجنة؟!»، وفي رواية: «وله بها خير منها في الجنة؟».
وهنا قام عثمان بن عفان رضي الله عنه وانطلق سريعاً إلى هذا اليهودي يريد أن يشتري منه البئر بكاملها، فرفض اليهودي الجشع أن يبيع البئر، فساومه عثمان على أن يشتري نصفها، فاشترى عثمان نصفها باثني عشر ألف درهم! على أن يكون لليهودي يوم ولعثمان يوم آخر، وكان المسلمون يستسقون في يوم عثمان ما يكفيهم ليومين، فلما رأى اليهودي أن تجارته قد بارت، وأن سوقه قد كسدت، ذهب بنفسه إلى عثمان ليعرض عليه النصف الآخر، فاشترى عثمان نصفها الآخر بثمانية آلاف درهم؛ ليجعل ماء البئر كله إلى المسلمين.
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة أنَّ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قالَ: «بَيْنا رَجُلٌ يَمْشِي، فاشْتَدَّ عليه العَطَشُ، فَنَزَلَ بئْرًا، فَشَرِبَ مِنْها، ثُمَّ خَرَجَ فإذا هو بكَلْبٍ يَلْهَثُ يَأْكُلُ الثَّرَى مِنَ العَطَشِ، فقالَ: لقَدْ بَلَغَ هذا مِثْلُ الذي بَلَغَ بي، فَمَلَأَ خُفَّهُ، ثُمَّ أمْسَكَهُ بفِيهِ، ثُمَّ رَقِيَ، فَسَقَى الكَلْبَ، فَشَكَرَ اللَّهُ له، فَغَفَرَ له»، قالوا: يا رَسولَ اللَّهِ، وإنَّ لنا في البَهائِمِ أجْرًا؟ قالَ: «في كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أجْرٌ».
التحذير من منع الماء
لقد حذر الإسلام أتباعه من منع الماء عمن يحتاج إليه، فإن من امتلك أن يسقي غيره ثم منع هذه السقيا فإن الله يمنع عنه الماء يوم القيامة، والناس في أشد الحاجة إليه، ففي صحيح البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ: رَجُلٌ حَلَفَ عَلَى سِلْعَةٍ لَقَدْ أَعْطَى بِهَا أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَى وَهُوَ كَاذِبٌ، وَرَجُلٌ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ كَاذِبَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ رَجُلٍ مُسْلِمٍ، وَرَجُلٌ مَنَعَ فَضْلَ مَاءٍ، فَيَقُولُ اللَّهُ: الْيَوْمَ أَمْنَعُكَ فَضْلِي كَمَا مَنَعْتَ فَضْلَ مَا لَمْ تَعْمَلْ يَدَاكَ».