أخرج الإمام أحمد في مسنده أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه جاء إلى النبي ﷺ، فقال: يا رسول الله، إني مررتُ بأخٍ لي من قُرَيْظَة، فكتب لي جَوَامعَ من التوراة، ألا أعرضها عليك؟ قال: فتغيَّرَ وَجْهُ رسول الله ﷺ، قال عبدالله بن ثابت: قلت له: ألا ترى ما بوجه رسول الله ﷺ؟ فقال عمر: رضينا بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد ﷺ رسولًا، قال: فسُرِّيَ عن رسول الله ﷺ وقال: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ أَصْبَحَ فِيكُمْ مُوسَى، ثُمَّ اتَّبَعْتُمُوهُ وَتَرَكْتُمُونِي؛ لَضَلَلْتُمْ، إِنَّكُمْ حَظِّي مِنْ الأمَمِ، وَأَنَا حَظُّكُمْ مِنْ النَّبِيِّينَ».
وفي هذا الحديث تحذير وحماية للأمة من هجمة فكرية قد لا تحمد عواقبها، فما أهم السياسات الواجبة على الراعي تجاه رعيته لحمايتهم من مثل هذه الهجمات؟
أولاً: المتابعة الدقيقة للأفكار الواردة إلى الناس:
الراعي مسؤول عن رعيته، فقد أخرج البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر أن رسول الله ﷺ قال: «كُلُّكُمْ رَاعٍ ومَسْؤُولٌ عن رَعِيَّتِهِ؛ فَالإِمَامُ رَاعٍ وهو مَسْؤُولٌ عن رَعِيَّتِهِ، والرَّجُلُ في أهْلِهِ رَاعٍ وهو مَسْؤُولٌ عن رَعِيَّتِهِ، والمَرْأَةُ في بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ وهي مَسْؤُولَةٌ عن رَعِيَّتِهَا، والخَادِمُ في مَالِ سَيِّدِهِ رَاعٍ وهو مَسْؤُولٌ عن رَعِيَّتِهِ»، والرعاية تقتضي الاهتمام بأحوالهم والحرص على جلب المنافع لهم ودفع المضار عنهم.
ومن هنا كان لزاماً على الراعي أن ينظر في الأحوال الفكرية الواردة إلى المجتمع، ودراسة ما ينفع منها وما يضر، فما كان نافعاً تبنّاه وحث الناس عليه، وما كان ضارّا منعه وحذّر الناس منه.
ثانياً: فتح المجال أمام الرعية لعرض ما يرد إليها على الراعي:
إن إتاحة الحرية للرعية أن تعرض ما يرد إليها على الراعي لهو باب عظيم من أبواب الحماية والعصمة من الفتن، حيث إن الفكر الوارد قد يكون فيه من الخطورة ما لا يدركه آحاد الناس، فإذا كان المجال مفتوحاً لعرضه على الراعي، ويقوم الراعي بالنظر فيه أو تشكيل لجان متخصصة للنظر فيه وإدراك أبعاده ومراميه، وبيان الخير أو الشر الوارد فيه للناس، فإن هذا يجعل مناقشة الفكرة بالفكرة والحجة بالحجة، وهذا من شأنه أن يسهم في إعمال العقول ووزن الأفكار والحماية من الشبهات التي قد تتسلل في الظلام وأوقات الغفلة، فتتلقفها العقول الضعيفة والقلوب المريضة، وتستغل التيارات المنحرفة توظيف ذلك في الطعن في فكر الناس ودينهم وثقافتهم.
ثالثاً: لفت أنظار الرعية إلى الصواب وإقامة الدليل عليه:
إن رسول الله ﷺ عندما رأى موقف عمر بن الخطاب حرص على التوضيح والبيان له ولمن حضره من الناس، حتى يبين لهم أن ما ورد إليهم من صحف لا ترقى لما هم عليه من الدين الصحيح، بل إنه ﷺ كشف لهم أن صاحب أصول هذه الصحف وهو سيدنا موسى عليه السلام لو كان حيّاً ما وسعه إلا أن يتبع رسول الله ﷺ، فلا ينبغي لأحد بعد بعثة رسول الله ﷺ أن يتبع رسولاً غيره، فهو خاتم الأنبياء والمرسلين.
هذا إذا فرضنا أن ما في هذه الصحف لم تمتد إليه يد التحريف، أما وإنها حرفت وتغيرت، فلم تعد تملك الصواب والقدسية التي هي للوحي الإلهي المعصوم، ولهذا لا ينبغي أن يستبدل المسلم صحف محرفة بما بيده من وحي معصوم؛ (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) (البقرة: 61).
وإن في موقف رسول الله ﷺ من البيان والإيضاح ما يغلق الباب أمام الاسترسال والمقارنة بين ما هم عليه وما ورد إليهم من الصحف القديمة –خاصة أن الإسلام في هذا الوقت كان جديداً، ولم يتمكن في قلوب الناس أو ينتشر كما انتشرت الصحف القديمة- أما إذا انتشر الإسلام وقام في الأمة متخصصون يقرؤون هذه الصحف ويبينون زيفها ويقيمون الأدلة على بطلانها فلا مانع منه، بل إن الإسلام دعا إليه، حيث قال تعالى: (وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل: 125).
رابعاً: النهي عن سؤال غير المسلمين عن السبل الدينية للهداية:
إن الله تعالى أرسل رسوله ﷺ بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وأكد أن الهداية كلها في هذا الدين، قال تعالى: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) (الإسراء: 9)، فلا ينبغي للمسلم أن يبحث عن سبيل للهداية في غير القرآن الكريم، ولا يسأل غير أهل الإسلام عن ذلك، حتى وإن بدت مظاهر الرقي في قانون آخر غير الإسلام؛ قال تعالى: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (آل عمران: 85).
وفي مسند أحمد عن جابر أن رسول الله ﷺ قال: «لا تَسْأَلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ شَيْءٍ، فَإِنَّهُمْ لَنْ يَهْدُوكُمْ وَقَدْ ضَلُّوا، وَإِنَّكُمْ إِمَّا أَنْ تُصَدِّقُوا بِبَاطِلٍ وإما أنْ تُكَذِّبُوا بِحَقٍّ، وَإِنَّه والله: لَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ مَا حَلَّ لَهُ إِلا أَنْ يَتَّبِعَنِي».
خامساً: إيضاح مظاهر الانحراف والتحذير منها:
ينبغي للراعي أن يقف على مظاهر الانحراف التي تحملها الأفكار الواردة، ويبينها للناس، من أجل التحذير منها والوقاية والتحصين للرعية من الوقوع فيها أو الافتتان بها، وهذا ما كان يفعله الرسول ﷺ حين يجد أي سلوك غريب عن الوسطية الإسلامية.
ففي صحيح البخاري عن أنس بن مالك قال: جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إلى بُيُوتِ أزْوَاجِ النَّبيِّ ﷺ، يَسْأَلُونَ عن عِبَادَةِ النَّبيِّ ﷺ، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقالوا: وأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبيِّ ﷺ؟! قدْ غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ وما تَأَخَّرَ، قالَ أحَدُهُمْ: أمَّا أنَا فإنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أبَدًا، وقالَ آخَرُ: أنَا أصُومُ الدَّهْرَ ولَا أُفْطِرُ، وقالَ آخَرُ: أنَا أعْتَزِلُ النِّسَاءَ فلا أتَزَوَّجُ أبَدًا.
فَجَاءَ رَسولُ اللَّهِ ﷺ إليهِم، فَقالَ: «أنْتُمُ الَّذِينَ قُلتُمْ كَذَا وكَذَا؟! أَمَا واللَّهِ إنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وأَتْقَاكُمْ له، لَكِنِّي أصُومُ وأُفْطِرُ، وأُصَلِّي وأَرْقُدُ، وأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فمَن رَغِبَ عن سُنَّتي فليسَ مِنِّي».
ففي هذا الموقف تعديل من الرسول ﷺ لمظاهر الانحراف، ورسم لطريق الصواب والاعتدال، حتى لا ينخدع الناس أو يفتتنوا بما حدث.
ومن باب التحذير من الهجمات الفكرية أيضاً ما كان يفعله الرسول ﷺ من التنبيه إلى ما يقع في المستقبل من الانحرافات، ورسم السبيل أمام الأمة إلى الوقاية منها، ومن ذلك ما رواه البخاري ومسلم عن سيدنا عليّ أن رسول الله ﷺ قال: «سَيَخْرُجُ قَوْمٌ في آخِرِ الزَّمانِ، أحْداثُ الأسْنانِ، سُفَهاءُ الأحْلامِ، يقولونَ مِن خَيْرِ قَوْلِ البَرِيَّةِ، لا يُجاوِزُ إيمانُهُمْ حَناجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ، كما يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ».
إنه تحذير من التيارات الفكرية المنحرفة، وحماية للأمة من خطرها وشرها.