كاتب المدونة: أحمد بيومي
صيدلي وباحث شرعي
نناقش في هذا المقال بعض الأفكار المطروحة حول معركة “طوفان الأقصى” دون إقرار لعقيدة أو تسويق لخطأ ولكن تصحيحًا لمفاهيم في التعامل السياسي والعسكري مع الرافضي الحليف، في ظل واقع طغت عليه سردية تغذيها أنظمة وتهجيجها أجهزة وينساق معها الكثير من المؤثرين والمتصدرين بعلم وبغير علم.
أولًا: المتتبع لمنهج الحركة النبوي يجد جليًا سعة السياسة النبوية في التحالف مع المخالف برًا كان أو فاجرًا، مسلمًا كان أو كافرًا، طالما كان لمصلحة توافق الشرع، ولم يأت على باطل يخالف شيئًا من ثوابت الدين أو يفوّت مصلحة على المسلمين، وعزز تلك الملاحظة أن الدعوة ظهرت في بيئة عربية قبلية تعتمد التحالفات سبيلًا للتعايش والتآزر بين المكونات القبلية في الحق والباطل، فأقر النبي ماكان منها على البر والتقوى، وجعل ما كان منها على الباطل تحت قدميه.
وقد نزلت على النبي ﷺ الرسالة وهو في بني هاشم التي تنتمي لحلف يُعرف بالمطيبّين بين بني عبد مناف: هاشم والمطلب ونوفل وعبد شمس، في مقابل تحالف يعرف بالأحلاف لبني عبد الدار: وجمح ومخزوم وبنو عدي وكعب وسهم، وكان لحلف المطيبين دور في احتضان الدعوة النبوية في أيامها الأولى خاصة من بني هاشم والمطلب، ووقف بنو نوفل وعبد شمس منهم موقف الحياد، في مقابل الأحلاف الذين أعلنوا العداء والحرب على الدعوة من أول أيامها[1].
فلم يستنكف رسول الله ﷺ أن يكون ضمن حلف من المشركين عباد الأوثان، يأتزر بهم ويستعين على نشر دينه بحميتهم القبلية الجاهلية ما لم يكن على حساب دينه ودعوته، وقد ذاقوا معه وهم على الشرك صنوف التضييق والأذى وجسدوا ذروته في سنوات الحصار في شعب أبي طالب، حين انحاز بنو هاشم وبنو المطلب لهذا الشعب مسلمهم وكافرهم خوفًا على ابن عشيرتهم من القتل، حتى كان يُسمع أصوات نسائهم وأبنائهم يتضاغون وراء الشعب من الجوع، وضَربت عليهم الأحلاف مقاطعة اقتصادية واجتماعية وزلزلوا زلزالًا شديدًا، إلى أن هلك أبو طالب على الشرك ولم يكن له حظ من النصرة إلا الحمية لابن أخيه، لكن حفظ الإسلام لبني هاشم وبني المطلب – دون بني نوفل وعبد شمس – موقفهم ذلك؛ فجعل الله لهم سهم ذوي القربي من خمس الغنائم[2].
وأقر رسول الله ﷺ حلف المشركين وتعاضدهم على البر والمعروف في حلف الفضول، فقال: لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفًا ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو أدعى به في الإسلام لأجبت، حيث اجتمعت قبائل من قريش في دار عبد الله بن جدعان فتعاقدوا وتعاهدوا على ألا يجدوا بمكة مظلومًا من أهلها أو غيرهم إلا قاموا معه حتى ترد عليه مظلمته، وهذا الحلف هو المراد في قوله: وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة؛ لأنه موافق للشرع إذ أمر بالانتصاف للمظلوم والأخذ على يد الظالم، فلو دعى لحلف مثله مع المشركين المخالفين في الدين لأجل نصرة حق يقره الشرع لأجاب على اختلاف دوافع الداعين لهذا الحق[3].
وبعد موت عمه وعجز الحلف الذي كان تحته عن الحماية وتعرضه وأصحابه للأذى الشديد انطلق رسول الله ﷺ يبحث عن حاضنة جديدة – ولو كانت على الشرك – تحفظه وتنصره ليبلغ دعوته، فانطلق إلى الطائف فلقي ما لقي من الأذى، وسار يعرض نفسه على الناس بالموقف فيقول: هل من رجل يحملني إلى قومه؟ فإن قريشًا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي، فطاف على بني عامر وغسان وبني فزارة وبني مرة وبني حنيفة وبني سليم وبني عبس وبني نصر وثعلبة بن عكابة وكندة وكلب وبني الحارث بن كعب وبني عذرة وقيس بن الخطيم وأبو اليسر أنس بن أبي رافع[4]. حتى وجد ضالته في رهط يثرب وقد جاؤوا يبايعون ويتسلمون المهمة من بني هاشم، وحضر ومعه العباس بن عبد المطلب – وهو يومئذ على دين قومه إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ويتوثق له – فلما جلس كان أول متكلم فقال: يا معشر الخزرج: إن محمدًا منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه، فهو في عزة من قومه ومنعة في بلده، وإنه قد أبى إلا الانحياز إليكم واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه اليه ومانعوه ممن خالفه فانتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنك مسلموه وخاذلوه بعد الخروج إليكم فمن الآن فدعوه، فإنه في عزة ومنعة من قومه وبلده[5].
ولما هاجر إلى المدينة – وقد كان لكل من الأوس والخزرج حلف مع طائفة من اليهود – عقد حلفًا أوسع يضم الجميع بما فيهم اليهود: أشد الناس عداوة للذين آمنوا – وما أغناه عن اليهود حينئذ! – فحالفهم على أن يكون بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وإن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم، ثم إنه غدر بنو قيقناع فأخرجهم وبقي على حلفه مع من سواهم ولم يأخذهم بجريرة بني قينقاع، حتى غدرت بنو النضير فأخرجهم وبقي على حلفه لبني قريظة وآمنهم على جهتهم يوم الأحزاب، ثم قتلهم لما غدروا.
ثم لما صالح أعداءه من مشركي قريش يوم الحديبية كان من بنود ذلك أنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه، فتواثبت خزاعة: – ولم يكونوا كلهم على الإسلام يومئذ – فقالوا نحن في عقد محمد وعهده، وتواثبت بنو بكر فقالوا: نحن في عقد قريش وعهدهم، وما اغناه ﷺ عن تحمل أعباء حلف كهذا! بل إنما كان تجييش الناس لفتح مكة من آثار القيام بالتزامات ذلك الحلف بينه وبين خزاعة، حيث وقع نزاعٌ بين بكر وخزاعة لثأر بينهم في الجاهلية، وأعانت قريش بكر بالكراع والسلاح وقاتلوا معهم للضغن على رسول الله، فركب عمرو بن سالم الخزاعي حتى قدم على رسول الله وأنشده:
يا رب إني ناشد محمدا … حلف أبيه وأبينا الأتلدا
قد كنتموا ولدا وكنا والدا … ثمت أسلمنا فلم ننزع يدا
فانصر رسول الله نصرا أبدا … وادع عباد الله يأتوا مددا
فقال رسول الله: نُصرت يا عمرو بن سالم، وتحرك للوفاء بحلفه مع خزاعة[6].
وقد كانت خزاعة قبل الحديبية في حلف غير معلن مع رسول الله كما قال الزهري: وكانت خزاعة عِيبة نصح رسول الله مسلمها ومشركها، لا يخفون عنه شيئا كان بمكة[7]. فهذا معبد بن أبي معبد الخزاعي وكان يومئذ مشرك يمر برسول اللهﷺ – وهو مقيم بحمراء الأسد بعد وقعة أحد وقد أثخنتهم الجراح – فقال: يا محمد! أما والله لقد عز علينا ما أصابك في أصحابك ولوددنا أن الله عافاك فيهم، ثم خرج حتى لقي أبا سفيان بن حرب ومن معه بالروحاء وقد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله وأصحابه، فقال له: محمد قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قط يتحرقون عليكم تحرقا، قد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم وندموا على ما صنعوا، فيهم من الحنق عليكم شيء لم أر مثله قط! ومازال به حتى أثناهم عن ذلك وعادوا[8].
بل نرى رسول الله يحفظ لمطعم بن عدي موقفًا له في الإسلام، وكان أحد الذين ساهموا في نقضد صحيفة الحصار وأذن لرسول الله في الدخول في جواره بعد رجوعه من الطائف وقد تنكر الناس له، فتسلح المطعم يومئذ ودعا بنيه وقومه فقال: البسوا السلاح وكونوا عند أركان البيت فإني قد أجرت محمدا، فأراد رسول الله أن يكافئه – وهو ميت على الشرك، وما أغناه عن ذلك بعد موته! – فقال عن أسارى بدر السبعين: لو كان المطعم بن عدي حيًا ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له[9].
فهكذا تفتح لنا السياسة النبوية مسارات واضحة في التعامل مع المخالف دخولًا في تحالف تحته: كما كان قبل البعثة زمن الاستضعاف، أو معه: كما في فترة التأسيس بالمدينة مع اليهود، أو فوقه: كما كان بعد التأسيس مع خزاعة وغيرهم. فكيف بعد كل ذلك يُنكرُ على مستضعفٍ أن يتحالف مع مسلم وإن كان فيه ما فيه! يمده بالسلاح والعدة للقيام بواجب متعين نكص عنه الجميع؟!
ملحوظة: التحالف مع المخالف لا يعني أنه لم يُسبق بخلاف أو قتال أو أنه يمنع القتال بينهم مستقبلاً، فلكل حادثة حديث، وهذا النبي ﷺ حارب بني المصطلق من خزاعة – وكانوا حلفاء بني مدلج – وبيّتَهم وقتل منهم عشرة وأسر سائرهم فما أفلت منهم رجل واحد، وأُسرت جويرية بنت الحارث – ابنة ملكهم – فأعتقها رسول الله ﷺ واستنكحها، وجعل صداقها عتق كل مملوك من بني المصطلق، وذلك سنة خمس قبل أن تدخل خزاعة في حلفه لاحقًا[10]. والنبي أخبر أننا في آخر الزمان – زمن المهدي الذي يملأ الأرض قسطًا وعدلا، زمن الخلافة على منهاج النبوة – سنصالح الروم صلحا آمنا فنحارب وهم عدوا وننتصر ونسلم ونغنم، ثم تغدر الروم وتجمع للملحمة[11].
ملحوظة: السياسة النبوية واقعية حركية تتفاعل مع المتاح من الإمكانات والمفروض من الحوادث وليست خيالية افتراضية، خرج عبد الله بن أبي بن سلول رأس النفاق للقتال إلى جوار المسلمين في أحد، – وكان قد نزل فيه قول الله تعالى في وقعة بني قينقاع: ﴿ فَتَرَى ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَض يُسَٰرِعُونَ فِيهِمۡ يَقُولُونَ نَخۡشَىٰٓ أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَة ﴾ [المائدة: 52] – حتى انخزل بثلث الناس من أهل النفاق والريب يومئذ، فقالت الأنصار: يا رسول الله ألا نستعين بحلفائنا من يهود؟ فقال: لا حاجة لنا فيهم[12]. ثم إن رسول الله ﷺ استأمن يهود بني قريظة على حصونهم دون الأحزاب يوم الخندق، وكان الذي هيج المشركين وحزب الأحزاب من قريش وغطفان نفرٌ من اليهود، ثم إنهم مازالوا ببني قريظة حتى غدروا[13]. واستعان في تأمين السلاح يوم حنين بصفوان بن أمية وهو يومئذ مشرك على قتال مشركين، فقال: يا أبا أمية أعرنا سلاحك هذا نلقى فيه عدونا غدًا، فقال: أغصبًا يا محمد؟ قال: بل عارية مضمونة حتى نؤديها إليك، قال ليس بهذا بأس، فأعطاه مائة درع بما يكفيها من السلاح[14].
ثانيًا: السياسة النبوية لا تقف كثيرًا عند الخسائر الشخصية والمواقف النفسية، بل تتجاوز ذلك لما هو أنفع لمصلحة الناس، فهذا رسول الله ﷺ يتجاوز ما كان بينهم وبين غطفان من العداء والقتال وسوء الجيرة، – بل ومحاولة قتل رسول الله، وكانوا مما يلي المدينة بنجدٍ – لأجل مصلحة عامة المسلمين يوم الأحزاب، بعدما اشتد على الناس البلاء فبعث رسول الله ﷺ إلى عيينة بن حصن والحارث بن عوف المري وهما قائدا غطفان وأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما عنه وعن أصحابه فجرى بينه وبينهم الصلح حتى كتبوا الكتاب ولم تقع الشهادة ولا عزيمة الصلح إلا المراوضة، ثم بعث إلى السعدين واستشار هما فيه، فقالا: يا رسول الله أمرا تحبه فنصنعه؟ أم شيئا أمرك الله به لا بد لنا من العمل به؟ أم شيئا تصنعه لنا؟ فقال: بل شيء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلا لانى رأيت العرب رمتكم عن قوس واحدة وكالبوكم من كل جانب فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما، فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله قد كنا وهؤلاء على الشرك بالله وعبادة الأوثان لا نعبد الله ولا نعرفه وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة واحدة إلا قرى أو بيعا، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك وبه نعطيهم أموالنا؟ ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف، حتى يحكم الله بيننا وبينهم، فقال النبي: أنت وذاك، فتناول سعد بن معاذ الصحيفة فمحا ما فيها من الكتاب، ثم قال: ليجهدوا علينا[15].
بل تجاوز ما صنعه المشركون مع المسلمين من التعذيب والقتل والإخراج والتشريد والنهب والتضييق على مدار أكثر من عشر سنوات، وقال يوم الحديبية: والذي نفسي بيده لا يسألوني خُطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها[16]، وجرى بينهم من أمر المنع من دخول الحرم، ثم صالحهم المشركين على أمور لم تتحملها نفوس بعض أصحابه، حتى أتى عمر رسول الله – بعد أبي بكر – فقال: يا رسول الله! ألست برسول الله؟! قال: بلى، قال: أو لسنا بالمسلمين؟! قال: بلى، قال: أو ليسوا بالمشركين؟! قال: بلى، قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟! قال: أنا عبد الله ورسوله لن أخالف أمره ولن يضيعني.
ودعا رسول الله ﷺ علي بن أبي طالب فقال: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم، فقال سهيل لا أعرف هذا! ولكن اكتب باسمك اللهم، فقال رسول الله : اكتب باسمك اللهم، فكتبها، ثم قال: اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو، فقال سهيل: لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك، فقال رسول: اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو، اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين يأمن فيهن الناس ويكف بعضهم عن بعض، على أنه من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليه رده عليهم، ومن جاء قريشا ممن مع محمد لم يردوه عليه، وأن بيننا عيبة مكفوفة، وأنه لا إسلال ولا إغلال، وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه، وأنك ترجع عامك هذا فلا تدخل علينا مكة، وأنه إذا كان عام قابل خرجنا عنك فدخلتها بأصحابك فأقمت بها ثلاثا معك سلاح الراكب السيوف في القرب لا تدخلها بغيرها.
فبينا رسول الله ﷺ يكتب الكتاب إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في الحديد قد انفلت إلى رسول الله ﷺ فقام إليه سهيل فضرب وجهه وأخذ بتلبيبه وقال: يا محمد قد لجت القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا، قال: صدقت فجعل ينتره بتلبيبه ويجره يعنى يرده إلى قريش، وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته: يا معشر المسلمين أرد إلى المشركين يفتنونني في ديني! فزاد ذلك الناس إلى ما بهم، فقال رسول الله ﷺ: يا أبا جندل! اصبروا احتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحا وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهد الله، وإنا لا نغدر بهم، فوثب عمر بن الخطاب مع أبي جندل يمشي إلى جنبه ويقول: اصبر أبا جندل، فإنما هم المشركون وإنما دم أحدهم دم كلب، قال: ويدني قائم السيف منه، يرجو أن يأخذ السيف فيضرب أباه، قال: فضن الرجل بأبيه ونفذت القضية، ولما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله لأصحابه: قوموا فانحروا ثم احلقوا، فما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات[17].
وأنزل الله تعالى بعد ارتحالهم عائدين: ﴿إِنَّا فَتَحۡنَا لَكَ فَتۡحا مُّبِينا ﴾ [الفتح:1] فقيل إن رجلًا قال: ما هذا بفتح! لقد صدونا عن البيت، فقال النبي: بل هو أعظم الفتوح، قد رضي المشركون أن يدفعوكم عن بلادهم بالراح، ويسألكم القضية ويرغبوا إليكم في الأمان، وقد رأوا منكم ما كرهوا[18].
ويتجاوز عن رأس الكفر أبي سفيان وزعيم المشركين يوم أحد – الذي سقط فيه سبعون من خيرة المسلمين على رأسهم حمزة عم رسول الله – وحاشد الأحزاب لاستئصال شأفة المسلمين يوم الخندق، الذي لم يرقب فيهم إلا ولا ذمة، دخل عليه عمر وهو بحضرة رسول الله قادمًا لفتح مكة فقال: يا رسول! الله هذا أبو سفيان، قد أمكن الله منه بغير عقد ولا عهد فدعني فلأضرب عنقه؟ فسكت عنه، وكان في جوار العباس، ثم دعاه رسول الله إلى الإسلام وقال: ويحك يا أبا سفيان! ألم يأن لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله؟ فقال بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك، والله لقد ظننت أن لو كان مع الله غيره لقد أغنى عني شيئا بعد، قال: ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟ قال: بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك! أما هذه والله فإن في النفس منها حتى الآن شيئا، فقال له العباس: ويحك أسلم واشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله قبل أن تضرب عنقك؟ قال فشهد شهادة الحق فأسلم، قال العباس يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئا؟ قال: نعم، من دخل دار أبي سفيان، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن.
بل حين شكى أبو سفيان إلى رسول الله ﷺ قول سعد بن عبادة حين مر عليه فقال: يا أبا سفيان! اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة، فقال رسول الله: كذب سعد! بل هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة ويوم تكسى فيه الكعبة، وأمر بالراية – راية الأنصار – أن تؤخذ من سعد بن عبادة كالتأديب له، ويقال إنها دفعت إلى ابنه قيس بن سعد.
ولما دخل مكة آمن رسول الله الناس إلا أربعة نفر وامرأتين، وقال اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة، وقيل له هذا خالد بن الوليد يقتل؟ فقال: قم يا فلان فأت خالد بن الوليد فقل له فليرفع يديه من القتل، وقال: يا معشر قريش ما ترون أني فاعل فيكم؟ قالوا خيرا أخ كريم وابن أخ كريم، قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء[19].
فهل كان رسول الله بتجاوزه مستخفًا بدماء أصحابه وناسيًا لتضحياتهم؟! أم أنه تعالى عن المواقف الشخصية ووكل أمرها إلى الله الذي لا يضيع أجر المحسنين، وهو الذي لم يزل ذاكرًا لعمه حمزة، وقد جاءه وحشي مسلمًا بعد الفتح فقال: ويحك! غيب عني وجهك، فلا أرينك[20]. ولم تنس الأنصار ما صنعته قريش بها في أحد وقد أصيب منهم يومئذ سبعون ومثلوا بقتلاهم، فقالت الأنصار: لئن أصبنا منهم يوما من الدهر لنربين عليهم، فلما كان يوم فتح مكة نادى رجل لا يُعرف: لا قريش بعد اليوم! مرتين، فقال النبي: كفوا عن القوم[21].
ثم إن الشهداء لا يُضمَنون في الشريعة، ولو أسلم قاتِلُ الشهيد لم يجب عليه دية ولا كفارةٌ بالسنة المتواترة واتفاق المسلمين – كما ذكر ابن القيم – وقد أسلم جماعةٌ على عهد النبي ﷺ وقد عرف مَن قتلوه مثل وحشي بن حربٍ قاتل حمزة، ومثل قاتل النعمان بن قَوقَل وغيرهما، فلم يطلب النبي أحدًا بشيء عملًا بقوله: {قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَر لَّهُم مَّا قَد سَّلَفَ} [الأنفال: 38][22].
وكذلك ما استولوا عليه من أموال المسلمين ثم أسلموا كانت لهم ولم تُرَدَّ إلى المسلمين لأنها أخذت في الله وأجورهم فيها على الله[23]. وقد استولى عقيل بن عبد المطلب – وكان على دين قومه لم يسلم بعد – على رباع بني هاشم لمَّا هاجر النبي؛ ليس هو لأجل ميراثه، فإنه أخذ دار النبي التي كانت له التي ورثها من أبيه، وداره التي كانت لخديجة، وغير ذلك مما لم يكن لأبي طالب، فاستولى على رباع بني هاشم بغير طريق الإرث، بل كما استولى سائر المشركين على ديار المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم، كما استولى أبو سفيان بن حرب على دار أبي أحمد بن جحش وكانت دارًا عظيمةً، فكان المشركون ــ لمَّا هاجر المسلمون ــ مَن كان له قريبٌ أو حليفٌ استولى على ماله، ثم لمَّا أسلموا عامَ الفتح أقرَّهم النبي ﷺ على ما أسلموا عليه، وقال: مَن أسلم على شيء فهو له، ولم يرُدَّ إلى المهاجرين دُورَهم التي أُخِذت منهم، بل قال: هذه أخذت في الله، أجورهم فيها على الله، وقال لابن جحشٍ: ألا ترضى أن يكون لك مثلها في الجنة؟[24].
وهذا هو موقف الشريعة والفقهاء من الخسائر التي تقع في نزاع يحركه التأويل ودعوى الحق بين فئتين، فإن كانوا بغاة في توصيف الشريعة لم يضمنوا مالًا ولا نفسًا، وبه قال أبو حنيفة ومالك والشافعي في أحد قوليه وهو قول أحمد، لما روى الزهري أنه قال: وقعت الفتنة وأصحاب رسول الله متوافرون، فأجمعوا أن كل دم أو مال أصيب بتأويل القرآن فإنه هدر، أنزلوهم منزلة الجاهلية، ولأنها طائفة ممتنعة بالحرب بتأويل سائغ فلم تضمن ما أتلفت على الأخرى كأهل العدل، ولأن تضمينهم يفضي إلى تنفيرهم عن الرجوع إلى الطاعة فلا يشرع، كتضمين أهل الحرب.
وإن كانوا مرتدين فأسلموا لم يضمنوا مالا على قول أبي حنيفة ومالك، وضمنوا المال دون النفس على قول أحمد، ولم يضنوا شيئًا على قول الشافعي كأهل البغي؛ لأن تضمينهم يؤدي إلى تنفيرهم عن الرجوع إلى الإسلام، وإذا سقط ذلك عن أهل البغي كيلا يؤدي إلى تنفيرهم عن الرجوع إلى الطاعة فلأن يسقط ذلك عن المرتدين كيلا يؤدي إلى التنفير عن الإسلام أولى، لأنهم إذا امتنعوا صاروا كفارا ممتنعين بدارهم فأشبهوا أهل الحرب، ثم إنهم قاسوا ذلك على ما وقع في حروب الردة، حين فاؤوا إلى أبي بكر فقال لهم: تردون علينا ما أخذتم منا، ولا نرد عليكم ما أخذنا منكم، وأن تدوا قتلانا، ولا ندي قتلاكم، قالوا: نعم يا خليفة رسول الله، فقال عمر: كل ما قلت كما قلت، إلا أن يدوا ما قتل منا، فلا؛ لأنهم قوم قتلوا في سبيل الله واستشهدوا، ثم إن الله قد اشترى منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، فعوض ما أخذ منهم على الله لا على أولئك الظالمين الذين قاتلهم المؤمنون، فوافقه أبو بكر ورجع إلى قوله فصار إجماعًا، ولم ينقل أنه أغرم أحدًا شيئا بعد عودهم إلى الإسلام بما كانوا قتلوه من المسلمين وأتلفوه من أموالهم؛ لأنهم كانوا متأولين وإن كان تاويلهم فاسدًا، وقد قتل طليحة عكاشة بن محصن وثابت بن أقرم ثم أسلم فلم يغرم شيئا، وبنو حنيفة قتلوا من قتلوا من المسلمين يوم اليمامة فلم يغرموا شيئا ولم يضمنهم أبو بكر وعمر وسائر الصحابة لا ديةً ولا كفارةً [25].
فأين الشرع والعقل من استدعاء الدماء فزاعة لارهاب المتجاوزين لماضٍ أليم إلى ما هو أصلح للأمة بأكملها وأنفع لحاضرها ومستقبلها في ظلال حرب كبرى لن ترحم الباكين على الأطلال!
وكيف وقد أبدى المخالف الرافضي استعدادًا لتصحيح المسار، وتجاوز الماضى، والسكوت عن الخلاف العقدي لمصلحة مشتركة في قتال عدو مشترك وهم اليهود؟! أليس ذلك أدعى لتجاوز الحديث عن الدماء وإحياء الثارات؟
وهؤلاء الخلفاء الراشدون خاضوا حربًا هي أشرف ما يكون في الدفاع عن حياض الإسلام، ثم جاء رؤوس المرتدين – وقد تلطخت دماؤهم بخيرة أصحاب رسول الله – تائبين فقبلوا منهم، وأحسنوا إليهم، فهذا الأشعث بن قيس بن معدي كرب الكندي، ارتد عن الإسلام في ناس من كندة وقاتل حتى حوصر ونزل بالأمان، فأخذ الأمان لسبعين ولم يأخذ لنفسه، فأُتي به الصديق في الحديد، وجعل يقول له: إنا قاتلوك لا أمان لك، فعلت وفعلت! فقال: تمن علي وأسلم؟ وروي أنه قال: يا خليفة رسول الله، استبقني لحربك، وزوجني أختك، ففعل، وزوجه أخته فروة بنت أبي قحافة[26].
وهذا طليحة بن خويلد بن نوفل الأسدي ارتد وادعى النبوة وحارب المسلمين، ثم انهزم ولحق بنواحي دمشق عند آل جفنة حياءً من الصديق، فلما توفي الصديق خرج محرمًا بالحج، فلما رآه عمر قال: يا طليحة، لا أحبك بعد قتل عكاشة بن محصن وثابت بن أقرم، فقال: يا أمير المؤمنين، رجلين أكرمهما الله بيدي ولم يهني بأيديهما، ثم حسن إسلامه وشهد القادسية، فكتب عمر إلى سعد أن شاور طليحة في أمر الحرب ولا توله شيئًا[27].
ثالثًا: ليس في ميزان الشرع حشر الجميع – لا من جهة الحكم أو المعاملة – في زاوية واحدة، ولا هو مما ترتضيه العقول السوية، لكن هذا منهج المارقة الذين قالوا لرسول الله – في شان المألفة قلوبهم: – اعدل! فما هذه قسمة أريد بها وجه الله، لما أرادوا التسوية بين الناس جميعًا بميزان عقولهم القليلة تحقيقًا لهوى وغفلة عن مصلحة، والشريعة جاءت بمراعاة المصالح والمفاسد، وتحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما ودفع أعظم المفسدتين بالتزام أدناهما[28].
والمنهج القرآني يقول: ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ ٱلنَّاسِ عَدَٰوَة لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱلۡيَهُودَ وَٱلَّذِينَ أَشۡرَكُواْۖ وَلَتَجِدَنَّ أَقۡرَبَهُم مَّوَدَّة لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّا نَصَٰرَىٰۚ﴾ [المائدة: 82]، فليس الكل على درجة واحدة في العداء، وإنما يُسوي بينهم السفهاء، لذلك كان المشركون يحبون أن يظهر أهل فارس على الروم لأنهم وإياهم أهل أوثان، وكان المسلمون يحبون أن يظهر الروم على فارس لأنهم أهل كتاب، فلما ظهرت الروم فرح المؤمنون، فذلك قوله تعالى: ﴿ وَيَوۡمَئِذ يَفۡرَحُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ بِنَصۡرِ ٱللَّهِۚ يَنصُرُ مَن يَشَآءُۖ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ ﴾ [الروم: 4-5][29]. ولا يحمل ذلك الفرح إشارة لحب ولا رضا بل كانت الروم أول وجهة نبوية بعد الانتهاء من جزيرة العرب.
والرافضة بعد كل ذلك ليسوا فرقة واحدة لها حكم واحد، وإن كانوا فرقة مبتدعة خارجة عن أهل السنة فهم ولا شك خيٌر من الكفار الأصليين، فإن كان ثمة ضلال في الرافضة فبمشابهتهم اليهود في خبثهم والنصارى في غلوهم[30]. فلن يكونوا بحالٍ شرًا منهم، وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن رجل يفضل اليهود والنصارى على الرافضة؟ فأجاب: كل من كان مؤمنا بما جاء به محمد فهو خيرٌ من كل من كفر به؛ وإن كان في المؤمن بذلك نوع من البدعة سواء كانت بدعة الخوارج والشيعة والمرجئة والقدرية أو غيرهم؛ فإن اليهود والنصارى كفار كفرا معلوما بالاضطرار من دين الإسلام، والمبتدع إذا كان يحسب أنه موافق للرسول لا مخالف له لم يكن كافرا به؛ ولو قدر أنه يكفر فليس كفره مثل كفر من كذب الرسول[31]. وقال في موضع آخر يؤكد ذلك: وقد ذهب كثير من مبتدعة المسلمين: من الرافضة والجهمية وغيرهم إلى بلاد الكفار فأسلم على يديه خلق كثير، وانتفعوا بذلك وصاروا مسلمين مبتدعين، وهو خير من أن يكونوا كفارا[32].
ولا يسوي بينهم في المعاملة إلا أحمق أو متحيز إلى عدو أشد خطرًا منهم، لذلك يقول شيخ الإسلام: لكن العاقل ينظر في خير الخيرين وشر الشرين، ألا ترى أن أهل السنة وإن كانوا يقولون في الخوارج والروافض وغيرهما من أهل البدع ما يقولون، لكن لا يعاونون الكفار على دينهم، ولا يختارون ظهور الكفر وأهله على ظهور بدعة دون ذلك؟[33].
وفي لحظتنا الراهنة التي تدور فيها رحى معركة حامية مع عدو لا يُخفي عداءه ولا يفرق بين سني وغيره، نستحضر فعل الرسول مع المنافقين بين صفوفه – وما أقدره عليهم حينئذ – الذين طالما آذوه وتعرضوا له في نفسه وأهله وأصحابه، وأراد عمر أن يضرب عنق بعضهم يومًا، فقال النبي: دعه، لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه، فلو قتله النبي وغيره لنفاقهم وما يبدر منهم كما قال أهل العلم: لوجد المنفر ما يقول، ولارتاب الشارد وأرجف المعاند، وارتاع من صُحبة النبي والدخول في الإسلام غير واحد، ولزعم الزاعم وظن العدو الظالم أن القتل إنما كان للعداوة وطلب أخذ الترة[34]. فقدم النبي ﷺ مصلحة الحفاظ على جبهة داخلية ملتئمة وتحمّل ما فيها من كدر على فساد تصدير صورة يشمت لها العدو ويرتاب لها الصديق.
رابعًا: نأتي على مسائل مبناها على حكم الرافضة وحكم أعيانهم، ونحن نتحدث عن الإمامية منهم فهم من وقع الخلاف في أمرهم، فالشيعة المفضّلة – الذين يفضلون عليا على عثمان – لم يختلف في إسلامهم أحد، وكذلك الإسماعيلية النصيرية الغالية فلم يختلف في كفرهم أحد، وفأما الإمامية الإثنى عشرية ففيهم الخلاف بين أئمة أهل السنة في الحكم عليهم جملة ثم الحكم على أعيانهم تفصيلا، فمنهم من يجعلهم من جملة أهل الوعيد بمنزلة الفساق والعصاة ويقولون: كما أن من أصول أهل السنة والجماعة أنهم لا يكفرون أحدا بذنب فكذلك لا يكفرون أحدا ببدعة، ومنهم من يكفرهم مع سائر الفرق.
والصحيح – كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية ملخصًا من كلامه: وهو من أخبر الناس بهم اعتقادًا وواقعًا، وله معهم صولات علمية وميدانية – أن من أقوالهم وأفعالهم ما لا يختلف في كفره، لكن لازم مذهب الإنسان ليس بمذهب له إذا لم يلتزمه؛ فإنه إذا كان قد أنكره ونفاه كانت إضافته إليه كذبًا عليه[35]. وهذا في الكلام في عقائدهم في الجملة، فمن أنكر أنه يسب أصحاب رسول الله ﷺ أو أمهات المؤمنين كانت إضافة ذلك له كذب عليه، فإنه لا يلزم إضافة كل ما ورد في كتبهم إليهم، فقد ينكر بعضهم اعتقادها أو يتبرأ منها، ويمتنع أن يعارض ذلك بالتقية وأنها من أصول دينهم لأن الحكم يُبنى على الظاهر من قولهم، كما قال خالد لرسول الله ﷺ في شأن الخارجي: إنه رُبّ مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه، فقال: إني لم أومر أن أشق قلوب الناس، ولا أشق بطونهم[36].
وأما حكم الأعيان فتكفير الواحد المعين منهم والحكم بتخليده في النار موقوف على ثبوت شروط التكفير وانتفاء موانعه، فإنا نطلق القول بنصوص الوعد والوعيد والتكفير والتفسيق ولا نحكم للمعين بدخوله في ذلك العام حتى يقوم فيه المقتضى الذي لا معارض له[37].
ثم ياتي التفصيل في ذلك على أصلين؛ الأول: أن الإيمان يتبعض، فمن أهل البدع من يكون فيه إيمان باطنًا وظاهرًا لكن فيه جهل وظلم حتى أخطأ ما أخطأ من السنة؛ فهذا ليس بكافر ولا منافق، ثم قد يكون منه عدوان وظلم يكون به فاسقًا أو عاصيًا؛ وقد يكون مخطئا متأولا مغفورا له خطؤه؛ وقد يكون مع ذلك معه من الإيمان والتقوى ما يكون معه من ولاية الله بقدر إيمانه وتقواه، فتتفاضل ولاية الله وتتبعض بحسب ذلك.
والأصل الثاني: أن المقالة تكون كفرًا: ثم القائل بها قد يكون بحيث لم يبلغه الخطاب أو بلغه لكن خفي عليه الحق حتى يظن أن الحق معهم لما يورده من الشبهات، ويكون أولئك المؤمنون مؤمنين بالله ورسوله باطنا وظاهرًا؛ وإنما التبس عليهم واشتبه هذا كما التبس على غيرهم من أصناف المبتدعة فهؤلاء ليسوا كفارًا قطعا[38].
وليس في الكتاب والسنة المظهرون للإسلام إلا قسمان: مؤمن أو منافق، فالمنافق في الدرك الأسفل من النار، والآخر مؤمن، ثم قد يكون ناقص الإيمان فلا يتناوله الاسم المطلق، وقد يكون تام الإيمان؛ فلا يجعل أحد بمجرد ذنب يذنبه ولا ببدعة ابتدعها – ولو دعا الناس إليها – كافرًا في الباطن إلا إذا كان منافقا، فأما من كان في قلبه الإيمان بالرسول وما جاء به وقد غلط في بعض ما تأوله من البدع فهذا ليس بكافر أصلًا، والخوارج كانوا من أظهر الناس بدعة وقتالا للأمة وتكفيرًا لها ولم يكن في الصحابة من يكفرهم لا علي بن أبي طالب ولا غيره، بل حكموا فيهم بحكمهم في المسلمين الظالمين المعتدين.
وكذلك سائر الثنتين والسبعين فرقة، من كان منهم منافقا فهو كافر في الباطن، ومن لم يكن منافقا بل كان مؤمنا بالله ورسوله في الباطن لم يكن كافرا في الباطن وإن أخطأ في التأويل كائنا ما كان خطؤه؛ وقد يكون في بعضهم شعبة من شعب النفاق ولا يكون فيه النفاق الذي يكون صاحبه في الدرك الأسفل من النار، ومن قال: إن الثنتين والسبعين فرقة كل واحد منهم يكفر كفرًا ينقل عن الملة فقد خالف الكتاب والسنة وإجماع الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، بل وإجماع الأئمة الأربعة وغير الأربعة[39].
وقد كان رسول الله ﷺ يُصلي أو لا يَنهى عن الصلاة على كل من أظهر الإسلام حتى جاءه النهي عن الصلاة على من أُوحي إليه أنه منافق، وهذا رأس النفاق ابن أبي وقد فعل في الإسلام ما فعل، فعاده في مرضه ودُعي بعد موته ليصلي عليه، فوثب إليه عمر بن الخطاب، فقال: يا رسول الله، أتصلي على ابن أبي وقد قال يوم كذا وكذا: كذا وكذا؟ يعدد عليه قوله، فتبسم رسول الله ﷺ وقال: أخر عني يا عمر، فلما أكثر عليه، قال: إني خيرت فاخترت، لو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها، قال: فصلى عليه ثم انصرف، فلم يمكث إلا يسيرا، حتى نزلت الآيتان من براءة: ﴿ وَلَا تُصَلِّ عَلَىٰٓ أَحَد مِّنۡهُم مَّاتَ أَبَدا وَلَا تَقُمۡ عَلَىٰ قَبۡرِهِۦٓۖ إِنَّهُمۡ كَفَرُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَمَاتُواْ وَهُمۡ فَٰسِقُونَ ﴾ [التوبة: 84][40].
وأجاب ابن تيمية في مثل هذا بقوله: أن كل مسلم يجوز الاستغفار له والصلاة عليه بل يشرع ذلك ويؤمر به، بل المنافقون الذين يكتمون النفاق يصلي المسلمون عليهم ويغسلون وتجري عليهم أحكام الإسلام كما كان المنافقون على عهد رسول الله ﷺ، وإن كان عُلم نفاق شخص لم يجز له أن يصلي عليه، كما نَهى النبي ﷺ عن الصلاة على من علم نفاقه، وأما من كان ظاهره الإسلام فيصلى عليه كما صلى على من لم يُنه عنه، وكان فيهم من لم يُعلَم نفاقه، كما قال تعالى: ﴿ وَمِمَّنۡ حَوۡلَكُم مِّنَ ٱلۡأَعۡرَابِ مُنَٰفِقُونَۖ وَمِنۡ أَهۡلِ ٱلۡمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى ٱلنِّفَاقِ لَا تَعۡلَمُهُمۡۖ نَحۡنُ نَعۡلَمُهُمۡۚ ﴾ [التوبة: 101][41].
قال ابن حزم: ويصلى على كل مسلم، بر أو فاجر، مقتول في حد أو في حرابة أو في بغي، ويصلي عليهم الإمام، وغيره – ولو أنه شر من على ظهر الأرض، إذا مات مسلما لعموم أمر النبي ﷺ بقوله: صلوا على صاحبكم، فمن منع من الصلاة على مسلم فقد قال قولًا عظيمًا، وإن الفاسق لأحوج إلى دعاء إخوانه المؤمنين من الفاضل المرحوم[42].
وساق أقوال أئمة السلف في ذلك، فقال عطاء: لا أدع الصلاة على من قال: ” لا إله إلا الله “، قال تعالى: ﴿ مِنۢ بَعۡدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمۡ أَنَّهُمۡ أَصۡحَٰبُ ٱلۡجَحِيمِ ﴾ [التوبة: 113]، قال: فمن يَعلم أن هؤلاء من أصحاب الجحيم؟! وقال مثل ذلك عمرو بن دينار، وصح عن إبراهيم النخعي أنه قال: لم يكونوا يحجبون الصلاة عن أحد من أهل القبلة، وصح عن قتادة أنه قال: ما أعلم أحدًا من أهل العلم اجتنب الصلاة عمن قال ” لا إله إلا الله “، وصح عن ابن سيرين: ما أدركت أحدًا يتأثم من الصلاة على أحد من أهل القبلة، وصح عن الحسن أنه قال: يصلى على من قال: ” لا إلا إلا الله ” وصلى إلى القبلة[43].
ثم إنه يتأكد إن كان ثمة مصلحة ما لا يجب في غيابها، كما أذن رسول الله ﷺ بتكفين ابن أبي بن سلول في قميصه، وجاء – إن صح – أن النبي ﷺ قال: إن قميصي لا يُغني عنه من الله شيئًا، وإني لأرجو أن يسلم بفعلي هذا ألف رجل من من قومه: أي الخزرج[44]. فيظهر من وراء ذلك أثر الموازنة بين المصلحة والمفسدة في ترجيح الأولى في التعامل مع كل حادثة وكل نازلة، وبناء على كلام ابن تيمية السابق – والذي يرى صحة الصلاة خلف الرافضة والجهمية[45] -، فمن رأى معاملة بعضهم بمقتضى الظاهر وأنهم مسلمون فوصف قتيل المعركة منهم بالشهادة أو ترحم عليه رجاء رحمة الله له على معروف قدمه، فما وجه الإنكار عليه؟! أو كرهَهُ ولكن رأى المصلحة أعظم في رأب الصدع وتأليف القلوب وتفويت الفرصة على عدو أخطر على كليهما، فما وجه الإنكار عليه؟!
خامسًا: من منهج أهل السنة معاملة المخالف بالعدل والإنصاف ولا يبخسونه حقه، وقد قال سبحانه: ﴿ وَلَا يَجۡرِمَنَّكُمۡ شَنَـَٔانُ قَوۡمٍ عَلَىٰٓ أَلَّا تَعۡدِلُواْۚ ٱعۡدِلُواْ هُوَ أَقۡرَبُ لِلتَّقۡوَىٰۖ ﴾ [المائدة: 8]، قال ابن تيمية: فنهى أن يحمل المؤمنين بغضهم للكفار على ألا يعدلوا عليهم، فكيف إذا كان البغض لفاسق أو مبتدع متأول من أهل الإيمان؟! فهو أولى أن يجب عليه ألا يحمله ذلك على ألا يعدل على مؤمن وإن كان ظالما له[46].
فمن مدح الرافضة لجهادهم اليهود ودعمهم للمجاهدين من أهل السنة فما وجه الإنكار عليه؟! وهذا المدح لا يفيد رضا بعقيدة أو إقرار على جريمة، والنبي مدح النجاشي بما فيه من عدل وهو على الشرك لمّا يُسلم بعد، فقال: لو خرجتم إلى أرض الحبشة؟ فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد[47].
وهذا عمر بن العاص يقول في الروم: إن فيهم لخصالا أربعا: إنهم لأحلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرة بعد فرة وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف، وخامسة حسنة جميلة: وأمنعهم من ظلم الملوك[48]. قال القرطبي معلقًا: ووصف عبد الله بن عمرو لهم بما وصفهم به من تلك الأوصاف الجميلة، إنما كانت غالبة على الروم الذين أدرك هو زمانهم، وأما ما في الوجود منهم اليوم فهم أنجس الخليقة وأركسهم، وهم موصوفون بنقيض تلك الأوصاف[49]. ليؤكد أن الملة الواحدة تتباين صفاتهم من زمان آخر، فمن مدح رافضة اليوم لموقفهم لا يقصد أن يمتدح تاريخهم الأسود.
ولا أعجب بعد هذا التطواف من المتصدرين في مدرجات المشاهدين القاعدين من أهل العمائم واللحى الذين لا يفقهون واقعًا ولا يميزون عدوًا، وإنما ينساقون مثل الإمعات مع أهواء العوام وتفاعلاتهم في فضاء تتحكم فيه أنظمة وتحركه حكومات، ليغرد الجميع في سردية تخدم أشد الناس عداوة للذين آمنوا.
وإن هذا الدين لن ينصره القاعدون أصحاب التنظيرات العريضة، الذين ينتظرون أن ينصلح حالهم وحال الناس من حولهم بغير جهاد ولا بذل للأنفس والأموال، فإن الدين – كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: – لن يقوم إلا بالكتاب والميزان والحديد، كتاب يهدي به، وحديد ينصره، كما قال تعالى: ﴿ لَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا رُسُلَنَا بِٱلۡبَيِّنَٰتِ وَأَنزَلۡنَا مَعَهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡمِيزَانَ لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلۡقِسۡطِۖ وَأَنزَلۡنَا ٱلۡحَدِيدَ فِيهِ بَأۡس شَدِيد وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعۡلَمَ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥ وَرُسُلَهُۥ بِٱلۡغَيۡبِۚ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيز ﴾ [الحديد: 25] فالكتاب به يقوم العلم والدين، والميزان به تقوم الحقوق في العقود المالية والقبوض، والحديد به تقوم الحدود على الكافرين والمنافقين[50].
وما أوفق أهل الجهاد العالمين العاملين للإصابة والسداد من القاعدين المنظرين بالغين ما بلغوا في العلم، فالجهاد موجب للهداية كما دل عليه قوله تعالى: ﴿ وَٱلَّذِينَ جَٰهَدُواْ فِينَا لَنَهۡدِيَنَّهُمۡ سُبُلَنَاۚ ﴾ [العنكبوت: 69]، ولهذا قال الإمامان عبد الله بن المبارك وأحمد بن حنبل وغيرهما مستدلين بالآية: إذا اختلف الناس في شيء فانظروا ماذا عليه أهل الثغر فإن الحق معهم[51]. وأي ثغر أشرف من الأرض المباركة! وأي جهاد أنقى من قتال اليهود!.
_____________________
[1] انظر: المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام لجواد علي (7/ 377)، وانظر: التحالف السياسي في الإسلام لمنير الغضبان (ص16)
[2] انظر: التحالف السياسي في الإسلام لمنير الغضبان (ص11) و(ص20) و(ص24)
[3] انظر: تفسير القرطبي (6/ 33)، وانظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم للقرطبي (6/ 483)، وانظر: تهذيب سنن أبي داود لابن القيم (2/ 323)، وانظر: فتح الباري لابن حجر (10/ 502)
[4] انظر: التحالف السياسي في الإسلام لمنير الغضبان (ص30)، وانظر: إمتاع الأسماع للمقريزي (1/ 49)
[5] انظر: البداية والنهاية لابن كثير (3/ 160)
[6] انظر: المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام (8/ 32)
[7] انظر: سيرة ابن هشام (2/ 312)
[8] انظر: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 49)
[9] انظر: كشف المشكل من حديث الصحيحين لابن الجوزي (4/ 46)، وانظر: التحالف السياسي في الإسلام لمنير الغضبان (ص29)
[10] انظر: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 156)، وانظر: تاريخ الإسلام للذهبي (2/481)
[11] انظر: سنن أبي داود: رقم 4292
[12] انظر سيرة ابن هشام (2/ 64)، وانظر البداية والنهاية (4/ 14)
[13] انظر البداية والنهاية (4/ 94)
[14] انظر البداية والنهاية (4/ 324)
[15] انظر: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 104)
[16] انظر: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 175)
[17] انظر: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 168)، و(4/ 176)
[18] انظر: تفسير القرطبي (16/ 260)
[19] انظر: البداية والنهاية لابن كثير (4/290- 301)
[20] انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي (1/ 176)
[21] انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي (1/ 182)
[22] انظر: أحكام أهل الذمة لابن القيم (2/ 36)
[23] انظر: أحكام أهل الذمة لابن القيم (2/ 36)
[24] انظر: أحكام أهل الذمة لابن القيم (2/ 33)
[25] انظر: المغني لابن قدامة (12/ 250)، و(12/ 262)، وانظر: منهاج السنة النبوية لا تيمية (4/ 454)، وانظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (8/ 334)، وانظر: أحكام أهل الذمة لابن القيم (2/ 36)
[26] انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي (2/ 37)، و(4/ 99)
[27] انظر: تاريخ الإسلام للذهبي (2/126)، وانظر: البداية والنهاية لابن كثير (7/118)
[28] انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (29/ 228)، وانظر: الصارم المسلول لابن تيمية (190 – 191)
[29] انظر: سنن الترمذي رقم: 3193.
[30] انظر: منهاج السنة النبوية لابن تيمية (1/ 22)
[31] انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (35/ 201)
[32] انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (13/ 96)
[33] انظر: منهاج السنة النبوية لابن تيمية (6/ 375)
[34] انظر: الشفا بتعريف حقوق المصطفى – القاضي عياض (2/ 227)
[35] انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (20/217)
[36] انظر صحيح ابن حبان رقم: 25
[37] انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (28/500)
[38] انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (3/ 351-355)
[39] انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (7/ 217)
[40] انظر: صحيح البخاري رقم: 1366
[41] انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (24/ 287)، و(24/ 286)
[42] انظر: المحلى بالآثار لابن حزم (3/399)
[43] انظر: المحلى بالآثار لابن حزم (3/401)
[44] انظر: تفسير القرطبي (8/ 221)
[45] انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (23/ 354)
[46] انظر الاستقامة لابن تيمية (1/ 38)
[47] انظر: البداية والنهاية لابن كثير (3/ 66)
[48] انظرصحيح مسلم رقم: 35 – (2898)
[49] انظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم للقرطبي (7/ 236)
[50] انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (35/ 36)
[51] انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (28/ 442)