أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي تجتاح العالم كله، وأصبح الشباب على صلة دائمة بتلك الوسائل، وعنصراً مستهدفاً لها، وركناً من أهم الأركان التي يقوم عليها خطابها، وأصبحت هذه الوسائل تمارس دوراً مهماً في تشكيل الهويات وتغيير القناعات، وهذه الوسائل ليست وليدة البيئة المسلمة، ولا هي من أوجدتها، فلذا أصبحت أداة مهمة بيد من يتحكم فيها، وقد أصبحت تقرأ أفكار الأشخاص من خلال تحليل اهتماماتهم، وتقدم لهم ما تتصور أن هذا يوافق شخصيتهم.
في حين، يجد الشباب أحياناً في الخطاب الديني تطلعاً مهماً لتلبية الفراغ الروحي وبنائه، فقد يوفر لهم إجابات عن تساؤلاتهم الوجودية، لكن في الوقت ذاته، يتعرض الشباب لتعدد المصادر الدينية؛ مما يجعلهم مرتبكين وغير قادرين على تمييز الصحيح من الخطأ، وآخرون قد يشعرون بأن الخطاب الديني معوقاً، يقيد حريتهم أو يتعارض مع تطلعاتهم.
ومن هنا، ينقسم الشباب حيال الخطاب الديني إما إلى رفضه بالكلية لما يرونه معوقاً لتطلعاتهم، وإما إلى قبوله باجتهادهم الشخصي، أو بالتلقي عن غير متخصص، فتحدث أزمة كبيرة بين ما يسمعه وما يشاهده، ويعايشه واقعاً.
الخطاب الديني يجب أن يكون باللغة الأقرب لفهم الشباب يركز على المثل العليا في صورتها الواقعية
فمفاهيم كالنصر التي يصدرها غير المختصين من الدعاة تصطدم مع الواقع، حيث يقدمون فكرة ناقصة أو زائفة عن النصر، فتخالف الفكرة الواقع، فتكون النتيجة إما رفضاً للخطاب بالكلية، أو قبوله بهذا الشكل الناقص الذي يصطدم بسؤال من أحد العوام لا يستطيع مقدم الصورة الناقصة للنصر الجواب عنه؛ كأن يقول له: أين النصر هناك فيما صورته هنا عن مفهومه؟
ومسألة كمكانة الصحابة كإحدى المسائل والمفاهيم التي يغلفها الدعاة بسياج يصطدم مع أسئلة تثور في أذهان الشباب؛ حيث يقدم لهم الصحابة بصورة ملائكية، تجعلهم في حيرة من أسئلة ذهنية لازمة، فإذا كانوا بهذه الملائكية، فلم تقاتلوا وتخاصموا فيما بينهم؟!
بل إن مفاهيم مهمة تختص بالأحوال والمقامات قدمت للشباب بصورة تقتل فيهم الإبداع، وتدعوهم للانهزامية، وتؤسس فيهم الإرجاء والتخاذل، يقول ماجد الكيلاني: «انقلب معنى التوكل فصار تبريراً للارتجالية، والفوضى وعدم الإعداد وإضاعة الوقت والمقدرات، بعد أن كان ثباتاً وإصراراً، بعد استكمال الاستعداد والتخطيط.
وانقلب معنى التسليم للمشيئة الإلهية، فصار تبريراً للتراخي وعدم الإنجاز، بعد أن كان تصميماً على مواجهة المصاعب واستهانة بكافة العقبات ما عدا مشيئة الله»(1).
وفي الوقت ذاته، ضيَّق بعض الدعاة مفهوم العمل الصالح، وحصره في المجالات الدينية، رغم تأكيد الشريعة على اتساعه، بل ووجود الأمثلة العملية على هذا التأكيد كما في قصة التي سقت الكلب، أو في مشورة من اقترح حفر الخندق، وأشار بتغيير منزل الحرب في «بدر»، أو في فعل من خذّل الأعداء في يوم «الأحزاب»، فالعمل الصالح يتسع ليشمل العمل القضائي، والعسكري، والاجتماعي، والتعليمي.
.. ومعاصراً ومناسباً لواقع الشباب فيقدم لهم الدعم النفسي والروحي ويساعدهم على التعامل مع التحديات
يقول الكيلاني: «العمل الصالح هو الترجمة العملية والتطبيق الكامل للعلاقات التي حددتها فلسفة التربية الإسلامية، بين إنسان التربية الإسلامية من ناحية، وكل من الخالق والكون، والإنسان والحياة، والآخرة من ناحية أخرى»(2)، فهو مفهوم متسع لا يجوز معه أن يرسخ الدعاة أو يسوِّغوا للمرء ترك تعلم الطب، ويتعلم الفقه، بحجة أن الفقه أقرب إلى الله وأجزل في المثوبة.
واجبات مهمة
يجب أن يكون الخطاب الديني باللغة الأقرب لفهم الشباب، يركز على تقديم المثل العليا في صورتها الواقعية، فإذا تكلم عن الصحابة تكلم عنهم بصورة لا تنزع بشريتهم، أو تجعلهم في رتبة الملائكة أو الأنبياء.
كما ينبغي ألا يؤسس الخطاب لفكرة العبد الأجير الذي ينتظر الجزاء فور انتهاء العمل، كأن يربط الصلاة بسعة الرزق، ثم لا يوضح اتساع مفهوم الرزق، والصلاة المطلوبة التي تستلزمه، أو أن يقول: من فعل كذا حدث له كذا، ومن قام بكذا وجد كذا.
فالعبادة قائمة في الأساس على التسليم المطلق لله، وابتغاء الأجر في الآخرة، والعبادة فاعليتها في جزائها الأخروي، لا في جزائها الحالي في الدار العاجلة.
ينبغي أن يرسخ الخطاب الديني مسألة أسئلة المصير الثلاثة، من أين؟ ولماذا؟ وإلى أين؟ وهي الأسئلة التي حارت فيها الفلسفات الغربية التي تسيطر على وجدان المجتمع الغربي الذي يسعي لعملية تحويل للفطر البشرية باسم الحريات والحقوق الثابتة.
كما ينبغي أن يوسع مفهوم السُّنة، التي هي الرحمة واللين، والمروءة، والكرم، والجسارة، والحياء، والرفق، واللين، والصلة، والإكرام، والعطف، ولا تُقدم السُّنة فقط على أنها مجموعة من الأفعال في الهدي الظاهر، ويقف عندها فقط، ويحاجج حول أهميتها، وحكم الصلاة خلف تاركها، فهذا من الجهد الضائع الذي يقع فيه كثير من الدعاة في الخطاب الديني، الذي يستهلك الجهد ولا تترتب عليه فائدة.
ينبغي للمؤسسات التعليمية تهذيب التدين وترشيده في ذهن الشباب من خلال معلميها إذا عجزت المناهج
يجب أن يكون الخطاب الديني معاصراً ومناسباً لواقع الشباب، فيقدم لهم الدعم النفسي والروحي، ويساعدهم على التعامل مع التحديات التي تواجههم في مدارج الحياة.
ينبغي أن يكون الخطاب الديني مبنياً على الحوار والتفاعل مع الشباب، والشعور بهم، والترحيب بالنافع المفيد من أفكارهم.
من هنا يمكن أن نقول: إن عملية التزييف والتسطيح لعقول الشباب وفناء أعمارهم في التيه، هو تقهقر للغة الخطاب الديني أو ضعفه، أو عدم وعي القائمين به، أو إغراقهم في وعود عاجلة لتدين ربما تتخلف عن قريب نتائجه، فتكون جناية الخطاب على الشباب أشد من جناية الوسائل التي تحاول تحييده دينياً أو تحويله بالكلية عن الدين.
أدوار لازمة
الشباب هو حلقة من حلقات المجتمع الواسعة، ولا يمكن أن تترك عملية تشكيل وعيه الديني لفئة الدعاة القاصرين، بل لا بد من دور للأسرة في الإرشاد إلى النافع المطلوب، وألا تمارس الأسرة هذا الدور بفوقية وقسوة تجعله مرفوضاً لدى الشباب.
ينبغي أن نشير إلى دور المؤسسات الدينية، التي يجب أن تطرق الأبواب على الشباب، ولا تأخذ بقول من يثبطها بحجة أن المريض يذهب للطبيب، ولا يذهب الطبيب للمريض، فدور المؤسسات هو طرق الأبواب على الشباب والدخول عليهم من كل نافذة، إذ تملك المؤسسات الدينة الراسخة في الأمة الصورة الأقرب للحق، والأولى بالانتهاج.
كما ينبغي أن تقوم المؤسسات التعليمية بعملية تهذيب التدين، وترشيده في ذهن الشباب ولو من خلال معلميها إذا عجزت المناهج.
من المهم، في النهاية، أن تكون هذه الأدوار تمارس المطلوب منها بأناة وعقلانية في الخطاب والتوجيه والتحذير والتحفيز والنقد والرفض والقبول، فطبيعة الشباب رفض الخطاب القائم على غير العقل، المتخذ من الإلزام منهجاً، أو من التحجير على القول طريقاً.
______________________
(1) أهداف التربية الإسلامية، ص 169.
(2) المرجع السابق، ص 44.