بعد أن بلغ موسى عليه السلام سن القوة والرشد، دخل المدينة التي كان يسكنها فرعون على حين غفلةٍ مِن أهلها، فوجد فيها رجلين يقتتلان، رجلًا مِن بني إسرائيل، ورجلًا قبطيًّا من قوم فرعون الذين كانوا يُسِيمُون بني إسرائيل سوء العذاب، فاستغاثه الذي مِن شيعته على الّذي مِن عدوِّه، فوَكَز موسى القبطي الظالم وَكْزَةً أفضت به إلى الموت، ولم يُرِد موسى قتله، وإنما كان يريد دفعه ومنعه من ظلم الرجل الإسرائيلي، ولهذا لما رأى القبطي جثة هامدة، استرجع وندم واستغفر الله، (قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ {15} قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (القصص).
في البداية لم يَفْشُ خبر قتل القبطي؛ لأنه كان في وقت تخلو فيه أزقَّة المدينة، وبالرغم من هذا فقد أصبح موسى عليه السلام في المدينة خائفًا يترقَّب، خائفًا من أن يُطالَب بدم القبطي الذي قتله، يَتَرَقَّبُ ما يقال في شأنه ليكون مُتَحَفِّزًا للاختفاء أو الخروج من المدينة.
ولمَّا انتشر خبر قتل موسى للقبطي بالمدينة، أخذ فرعون وقومه في البحث عنه لينتقموا منه، حينها (وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ {20} فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (القصص)، خرج موسى من المدينة خائفًا من الظالمين، يترقَّب أن يتعرَّضوا له، وجعل يتضرَّع إلى ربه أن يُنَجِيَّه من القوم الظالمين، وأن يهديه سواء السبيل.
في واقعنا المعاصر، وقبل 7 أكتوبر 2023، كانت مشاريع الضلال السياسية متمثلة بالتطبيع مع الكيان الصهيوني تكاد تغرق المنطقة، وكانت البيئة الإقليمية والدولية تشهد مخططاتٍ وتطبيعًا يؤهِّل «إسرائيل» لتكون دولةً قائدةً في الشرق الأوسط، غير أن المقاومة الفلسطينية خاصة في قطاع غزة كانت تشكل عقبة كؤود في وجه هذه المشاريع، وبالتالي كان لا بدَّ من القضاء على هذا الجيْب المقاوم الذي يمثِّل عقدة للإقليم، حتى يخلو لهم وجه المنطقة دون أيِّ معارضة.
كانت المقاومة تدرك أن العدو يتحيَّن الفرصة المناسبة لشنِّ عدوان مباغت، فكانت تسابق الزمن تجهيزًا وإعدادًا، إلى أن توَّجت ذلك بعملية «طوفان الأقصى»؛ استباقًا لهجومٍ كانت تنوي «إسرائيل» شنه على قطاع غزّة، فور انتهاء الأعياد اليهودية، وَفْقًا لتصريح نائب رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس»، الشهيد الشيخ صالح العاروري، لقناة «الجزيرة».
على حين غفلة من العدو والصديق جاءت «طوفان الأقصى»، محقِّقًة ضربة استباقية يكاد كل خبراء السياسة وممارسوها أن يُجْمِعوا على قوتها ودقتها وسريتها، وفوق كل ذلك مفاجأتها، أعلن العدو بعد هذه العملية حالة الحرب، وشنَّ على قطاع غزة عملية «السيوف الحديدية»، أصبح بسببها كل أهل القطاع خائفين من العدوان، يترقَّبون القصف والمجازر، وخرج الكلُّ من بيته في موجة نزوح رهيبة لم يشهد الفلسطينيون مثلها منذ عام النكبة 1948م.
يمكن ملاحظة أوجه الشبه بين وكزة موسى و«طوفان الأقصى» من خلال المحاور الثلاثة التالية:
أولاً: الدوافع:
كان موسى على جانب عظيم من القوة والمروءة؛ ما حمله على الانتصار للمظلوم بدون تقاعس أو تردد، فكانت وكزته انتصارًا للحق المستضعَف المتمثل بتسلُّط القبطي على الإسرائيلي، فقد قيل: كان القبطي من عَمَلَةِ مخبز فرعون، فأراد أن يحمل حطبًا إلى الفرن، فدعا إِسْرَائِيلِيًّا ليحمله فأبى، فأراد أن يُجْبِرَهُ على حمله، وأن يضعه على ظهره، فَاخْتَصَمَا وَتَضَارَبَا ضربًا شديدًا، وهو ما عبَّر عنه القرآن الكريم بِالتَّقَاتُلِ على طريق الاستعارة، (فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ)، وقد كان استذلال بني إسرائيل سلوكًا عامًّا من الأقباط لا تصرفًا فرديًّا.
تمتاز الشخصية الفلسطينية بالإباء ورفض الظلم، ومن هنا جاءت «طوفان الأقصى» انتصارًا للحق الفلسطيني المستضعَف في كافة فلسطين التاريخية، وكان خطوة ضرورية واستجابة طبيعية، لمواجهة ما يُحاك من مخططات «إسرائيلية» تستهدف تصفية القضية الفلسطينية، والسيطرة على الأرض وتهويدها، وحسم السيادة على المسجد الأقصى والمقدسات، وإنهاء الحصار الجائر على قطاع غزة.
ثم إن الانتصار للحق في زمن عربدة الباطل وقلَّة النصير وشيوع منهج الترخص وإيثار السلامة لا يكون إلا من أصحاب العزائم.
ثانياً: الوسائل:
في كلتا الحالتين كان الفرق في موازين القوى المادية بين الطرفين هائلًا، فالفئة المؤمنة قليلة العَدَد والعُدَد (موسى في مواجهة ظلم الأقباط، والمقاومة الفلسطينية في مواجهة الكيان وحلفائه)؛ الأمر الذي يستلزم ضخامة الواجب في ظل محدودية الإمكانات.
في ضوء هذا المشهد، كانت الوسيلة المناسبة لردع الباطل تعتمد على استجماع القوة بما هو متاح، وهو ما يستفاد من المدلول اللغوي لكلمة الوكز، إذ الوكز: الضرب بجميع الكف (اللَّكْم)، وهو يتطلَّب قدرًا زائدًا من القوة عمَّا تَتَطَلَّبه اللَّطْمَة مثلًا، وقد تجلَّى استجماع القوة عند موسى بالوكزة، وعند المقاومة الفلسطينية بـ«طوفان الأقصى».
ثالثاً: المآلات:
أدَّت وكزة موسى النتيجة المرجوَّة حين كفَّت أذى القبطي عن الإسرائيلي، صحيح أنها لم تَكُفَّ أذى كل الأقباط، فإنها كانت بداية المواجهة مع الظالمين، التي كانت عاقبتها خيراً للفئة المؤمنة، أما «طوفان الأقصى» فسبَّبت للكيان تهديدًا وجوديًّا لم يحصل له منذ تأسيسه.
وفي كلتا الحالتين أصبح أنصار الحق خائفين يترقبون، وأخرجوا من ديارهم ظلماً وعدواناً.
في قصة موسى، شكَّل خروجه إلى مدين مرحلة محورية جديدة في حياته، فيها نجَّاه الله من القوم الظالمين، وبنى أسرته، وعمل عند الرجل الصالح 10 سنين، وقد كانت هذه المرحلة مرحلة إعداد ثانية بعد مرحلة الإعداد الأولى التي كانت منذ الولادة حتى الخروج من مصر بعد قتله القبطي، بعد ذلك عاد موسى مع أهله إلى مصر وكُلِّف بالرسالة ودعوة فرعون، ثم خرج بعدها رفقة بني إسرائيل من مصر لتبدأ مرحلة جديدة ومهمة كان هدف موسى فيها دخول الأرض المقدسة وتحقيق العبودية لله فيها.
أيًّا كانت النتائج النهائية التي ستُسْفِر عنها «طوفان الأقصى» بعد انتهاء هذه الجولة من المواجهة، فإن مما لا شك أنها شكَّلت ميلاد مرحلة متقدمة محورية جديدة في المقاومة الفلسطينية، فإذا كانت المقاومة في مراحل سابقة تهدف بالأساس لكسر إرادة القتال لدى الجيش الصهيوني، فإن «طوفان الأقصى» جاءت لكسر إرادة البقاء لدى المجتمع الصهيوني، إذ كشفت وهم «نظرية الأمن»، بما يزعزع فكرة البقاء ويحفّز خيار الرحيل، وإذا كانت مخرجات خيار المقاومة في مراحل سابقة تورثنا قناعة أن تحريرها كلها ممكن، فإن «طوفان الأقصى» فتحت لنا مخيالاً جديداً أن تحريرها كلها بدأ، وإذا كانت المقاومة تواجه العدو منفردة في السابق، فإن «وحدة الساحات» في هذه الجولة تشكل لَبِنَة مهمة في توحيد جهود الأمة لقتال عدوها المركزي.
ختامًا، إن التشابه بين وَكْزَة موسى، و«طوفان الأقصى» من حيث الدوافع والوسائل والمآلات يهدينا إلى الاعتقاد بأن المُنْتَصِر للحق لا يُضَيِّعُه الله تعالى، وأن الله مُنَجِّينا كما نَجَّى موسى، ومُهْلِك فراعنة هذا الزمان كما أهلك فرعون الأول.