من سُنَّن الله تعالى في خلقه سُنّة التدرج، وسُنَّن الله تعالى لا تتبدل ولا تتحول، قال تعالى: (سُنَّةَ الله فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلًا) (الأحزاب: 62)، وقال تعالى: (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَحْوِيلًا) (فاطر: 43)، إلا أن البعض يتسرع ويتعجل قطف ثمار جهده، وهذا عائق من العوائق التي تقعد بهؤلاء البعض من استكمال السير إلى الله تعالى.
ونقصد بالتسرع واستعجال الثمرة أن بعض السائرين في الطريق إلى الله تعالى يريد تغيير الواقع الذي يخالف تعاليم الإسلام ونصوصه في وقت قصير، دون النظر في العواقب ودون فهمٍ لظروف وملابسات واقع المسلمين اليوم.
نظرة الإسلام إلى التعجُّل
التعجل من طبيعة الإنسان بشهادة خالقه تعالى، حيث قال عز وجل: (وَيَدْعُ الْإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ ۖ وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا) (الإسراء: 11)، وقال تعالى: (خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ ۚ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ) (الأنبياء: 37).
من هذا المنطلق، فإن الإسلام ينظر إلى التعجُّل نظرة عادلة، فلا يحمده في عمومه، ولا يذمه في عمومه، وإنما يحمده تارة ويذمه تارة أخرى، فيحمده عندما يكون ناشئاً عن تقدير دقيق للآثار والعواقب، وعن إدراك تام للظروف والملابسات، وعن حسن إعداد، ولعل هذا هو ما ورد في قوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام: (وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَوْمِكَ يَا مُوسَى {83} قَالَ هُمْ أُولَاء عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى) (طه)؛ إذ الظروف مناسبة، والفرصة مواتية، والعاقبة محمودة، والنفس صافية مشرقة، فما الذي يحمل موسى على التأني والتباطؤ؟!
ويذمه عندما يكون حالة نفسية خالية من تقدير العواقب والنتائج، وخالية من دراسة الواقع والظروف والملابسات، وهذا ما رفضه الرسول صلى الله عليه وسلم من خَبَّاب بن الأَرَتّ؛ حيث يقول خَبَّاب: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا: ألا تستنصر لنا؟! ألا تدعو لنا؟! فقال صلى الله عليه وسلم: «قد كان من قبلكم، يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد، ما دون لحمه وعظمه، فما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون» (متفق عليه).
عاقبة التعجُّل
لا يخفى على السائرين في الطريق إلى الله تعالى عاقبة التعجل، فهو سبيل إلى الفتور، والقعود، وتعطيل العمل، والرجوع به إلى الوراء عشرات السنين، وتهيئة الفرصة لأعداء الفكرة الإسلامية لبث سمومهم في عموم المسلمين.
أسباب التعجُّل
الأسباب التي توقع في التعجُّل كثيرة، نذكر منها:
– الدافع النفسي: ذلك أن التعجُّل ثابت في فطرة الإنسان كما قال تعالى: (خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ ۚ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ) (الأنبياء: 37)، وقال تعالى: (وَيَدْعُ الْإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ ۖ وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا) (الإسراء: 11).
– حرارة الإيمان: حيث إن الإيمان عندما يقوى، ويتمكن من النفس، تتولَّد فيها طاقة تندفع بها إلى أعمال قد تؤذي أكثر مما تفيد، ولعل هذا هو السر في دعوة المسلمين في المرحلة المكية إلى الصبر، والتحمل، وعدم القتال، قال تعالى: (وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا) (المزمل: 10)، وقال تعالى: (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ۖ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ) (الروم: 60).
– انتشار المنكرات: ذلك أن المسلم عندما يرى المنكرات أحاطت به من كل جانب، تعجَّل تغيير هذه المنكرات، وهذا واجب شرعي لا شك فيه، بيد أنه ليس كل منكر تجب إزالته أو تغييره على الفور، وإنما ذلك مشروط بألا يؤدي إلى منكر أكبر منه، فإن أدى إلى منكر أكبر منه وجب التوقف بشأنه، مع الكراهة القلبية له، ومقاطعته، والبحث عن أنجع الوسائل لإزالته.
– كثرة المشاق وطول الطريق: ذلك أن البعض قد يملك الجرأة والشجاعة للعمل الوقتي حتى وإن أدى إلى موته، ولكنه لا يملك القدرة على تحمل مشاقّ ومتاعب الطريق لزمن طويل.
– انعدام البرنامج الذي يستغرق الوقت ويمتص الطاقات: ذلك لأن النفس إن لم نشغلها بالحق شغلتنا بالباطل، ولعل هذا هو السر في أن الإسلام ملأ حياة المسلم ببرامج عملية تغطي جميع مناحي الحياة.
– الغفلة عن سنن الله تعالى: ذلك أن من سنن الله تعالى في الكون، والتشريع، التدرج، ففي الكون خلق السماوات والأرض في ستة أيام، وخلق الإنسان والحيوان والنبات على مراحل مع أنه قادر على خلق كل ذلك وغيره بكلمة «كن»؛ (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ) (يس: 82)، وفي التشريع حُرمت الخمر على مراحل وكذلك الربا.
– نسيان الغاية الحقيقة: إن الغاية الحقيقية للمسلم هي السعي لتحقيق مرضات الله تعالى، وهذا يتحقق بالتزام منهجه، وعدم التفريط فيه، والثبات عليه إلى أن يلقى الله تعالى مع الإخلاص؛ (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) (الكهف: 110).
فعندما ينسى البعض هذه الحقيقة، يقع لا محالة في التعجُل المذموم الذي يكون سبباً في تقاعده وبعده عن تحقيق هذه الغاية.
علاج التعجُّل
يكمن علاج التعجُّل فيما يلي:
1- إمعان النظر في الآثار والعواقب المترتبة على التعجُّل، فإن ذلك مما يهدئ النفس ويحمل على التريث والتأني.
2- دوام النظر في القرآن الكريم، فإن ذلك يُبصرنا بسُنن الله تعالى في خلقه.
3- دوام المطالعة في السُنَّة والسيرة النبوية، فإن ذلك مما يعرفنا على مقدار ما لاقى النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، من الشدائد والمحن.
4- مطالعة كتب التراجم والتاريخ، فإن ذلك مما يعرفنا بمنهج أصحاب الدعوات والسلف في مجابهة الباطل، وكيف أنهم تأنوا وتريثوا حتى مُكِن لهم.
5- العمل من خلال منهاج وبرنامج واضح الأركان محدد المعالم يستوعب الحياة كلها ويأخذ بيد المسلم من طور إلى طور، ومن مرحلة إلى مرحلة؛ فيشبع تطلعاته ويجيب عن تساؤلاته ويرفع من مستواه.
6- الانتباه إلى الغاية أو الهدف الذي من أجله يحيا المسلم، فإن ذلك يحول دون الاستعجال ويحمل على إتقان المقدمات والوقوف عندها وعدم تجاوزها إلى النتائج.
بين الفتور والتعجل
يجب أن يكون موقع المسلم وسطاً بين الفتور والتعجل؛ بمعنى أنه يكون مع مقدمات العمل دائب النشاط والحركة لا يقصر ولا يتوانى لحظة من ليل أو من نهار ولا يضيع فرصة تتاح له، أما مع النتائج فهو هادئ متريث متأن غير متهور لا يتعجل شيئاً قبل أوانه وإلا عوقب بحرمانه.
إن ميدان القول غير ميدان الخيال، وميدان العمل غير ميدان القول، وميدان الجهاد غير ميدان العمل، وميدان الجهاد الحق غير ميدان الجهاد الخاطئ.. يسهل على كثيرين أن يتخيلوا، ولكن ليس كل خيال يدور بالبال يستطاع تصويره أقوال باللسان، وإن كثيرين يستطيعون أن يقولوا؛ ولكن قليلاً من هذا الكثير يثبت عند العمل، وكثير من هذا القليل يستطيع أن يعمل؛ ولكن قليلاً منهم يقدر على حمل أعباء الجهاد الشاق والعمل المضني، وهؤلاء المجاهدون وهم الصفوة القلائل من الأنصار قد يخطئون الطريق ولا يصيبون الهدف إن لم تتداركهم عناية الله تعالى(1).
_______________________
(1) آفات على الطريق: د. السيد محمد نوح، علل وأدوية: الشيخ محمد الغزالي، بتصرف.