منذ بضعة أيام، فرغ القائمون على مجمع اللغة العربية بالشارقة من إعداد المعجم التاريخي للغة العربية الذي حوى كلمات العربية وأصولها وطرق استخدامها في 127 مجلدًا، ورغم ضخامة هذا العمل ودلالته على زخر اللغة العربية بالكلمات، فإن أبناءها ممن تعد العربية لغتهم الأم يبدو أنهم لم يجدو في طيات صفحاته غايتهم المنشودة فلجؤوا لغيرها من اللغات، مستعيضين إما بكلمات من تلك اللغات كاستعمال «ميرسي» (merci) الفرنسية بدلًا من شكرًا العربية، و«هاي» (Hi!) و«باي» (Bye) الإنجليزيتين بدلًا من تحية الإسلام، أو استعمال جمل بأكملها في الحديث مع بني جلدتهم من العرب.
البدايات التاريخية
الحقيقة أن دخول كلمات أجنبية على اللغة العربية والعكس ليس بجديد، كما يعتقد كثيرون، بل هو ضارب بجذوره في عمق التاريخ فيما يعرف بظاهرة الاحتكاك اللغوي.
وهي تطرق ألفاظ من لغة إلى أخرى نظير احتكاك أفراد هاتين اللغتين ببعضهما بعضاً.
وقد أشار العلَّامة الجاحظ إلى هذه الظاهرة في كتابه «البيان والتبيين»، فقال: «واللُّغتان إذا التقتا في اللسان الواحد أدخلتْ كلُّ واحدة منهما الضيمَ على صاحبتِها».
وقد يكون هذا الاحتكاك إما بصورة سلمية كرحلات التجارة، وإما بصورة غير سلمية كالحروب.
وتتأثر نوعية المفردات الداخلة بحسب السياق الذي دخلت فيه، فمثلًا انتقل إلى اللغات الأوروبية كثير من الكلمات العربية الدالة على منتجات زراعية أو صناعية: الليمون، والزعفران، والشراب، والسكر، والقهوة.
في الإنجليزية Lemon, saffron, sherbet, syrup, sugar, coffee, cotton
وفي الفرنسية Limon safran, sorbet, sirop, sucre, cafe, cotton“
كما ذكر ذلك أ.د. علي عبدالواحد وافي في كتابه «علم اللغة».
وعن تأثير العربية في الإسبانية والبرتغالية، نجد الأب جان دي صوصة (Fr. J. de SOUZA) وهو عربي من دمشق قصد البرتغال وانضم إلى الرهبنة الفرنيسكانية وعين ترجماناً عربياً للملك، صنف «معجم الألفاظ الإسبانية البرتغالية المشتقة من العربية»، وحوى هذا المعجم حوالي 18 ألف كلمة مشتقة من أصل عربي.
ولم يبدأ دخول العربية على غيرها من اللغات أو دخول غيرها عليها بدخول الأعاجم في دين الله أفواجًا، بل هو سابق لذلك.
فمثلًا: كلمة «الجُمان»، وهي الدرة المصوغة من الفضة، أصلها فارسي.
قد وردت في معلقة لبيد بن ربيعة في قوله:
وَتُضِيءُ في وَجْهِ الظَّلامِ مُنِيرَةً كَجُمَانَةِ الْبَحْرِيِّ سُلَّ نِظَامُهَا
لكن ما نلحظه من هذه الأمثلة السابقة أن الكلمات الدخيلة على كل لغة من غيرها صارت جزءًا من تلك اللغة ولم تستعمل بلفظها الأصلي وإن شابهته في النطق.
وهو ما يُعرف في لغتنا العربية بالتعريب؛ أي نقل اللفظ الأجنبي إلى اللغة العربية فيصير بذلك النقل جزءًا من العربية.
لكن ما يقوم به بعض أبناء العربية الآن من استعمال اللفظ الأجنبي حصرًا كبديل عن اللفظ العربي جملة وتفصيلًا لا يُصنف تحت بند «الاحتكاك» اللغوي، بل هو أقرب ما يكون لظاهرة «التناوب» اللغوي.
التناوب اللغوي وأسبابه
ظاهرة التناوب اللغوي أو ما يُشار إليه أحياناً بتبادل الشفرات (Code-Switching)، لا تقتصر على اللغة فحسب، بل تمتد إلى كافة سلوكيات الإنسان من طريقة ارتدائه للملابس وحتى طريقة مصافحته لتناسب معايير البيئة المحيطة.
1- الرغبة في الانفصال:
قد يكون السبب الكامن وراء استبدال البعض كلمات معينة في حديثهم بأخرى، أو استبدال سلوك معين بآخر هو رغبتهم في الانفصال عن اللغة والسلوك المستبدلين وما يرتبط بهما في أذهانهم وأذهان أقرانهم من صور نمطية.
وهذا ما أثبتته الدراسات العلمية التي أُجريت على عدد من الأفارقة الأمريكيين أنهم يلجؤون لهذا الأسلوب ليصيروا أقرب لـ«السلوك الأبيض»، وهو ما يؤثر بشكل كبير على رفاههم وتقدمهم الاقتصادي وحتى على سلامتهم البدنية.
يلجأ البعض للحديث باللغة الإنجليزية مثلًا ليفصل بذلك نفسه عمن لم يؤت حظه لتعلمها لأسباب اقتصادية غالبًا منعته من ارتياد مدارس تُدرس فيها اللغة الإنجليزية بصورة تمكن الدارس من تحدثها، فيكون بذلك المتحدث باللغة الإنجليزية سواء كان ذلك الحديث بأكمله بها أو بالاستبدال في نظره فصلًا له عن طبقات أقل دخلًا.
وقد لا تكون الرغبة في الانفصال من الناحية الاقتصادية فحسب، بل قد تكون من الناحية الثقافية، كمن يتحدث بالفرنسية في المغرب والجزائر وموريتانيا أُنفة منه أن يتحدث بالعربية، وظنًا منه أنه باستبدال «الراء» بـ«الغين» صار ملكًا متوجًا على عرش «الإليزيه»!
وكما استنتجت ليرا بوروديتسكي، الأستاذة المساعدة في مجال علم النفس المعرفي بجامعة ستانفورد من أبحاثها، «أن للغات التي نتحدث بها تأثيراً في رؤيتنا للعَالم».
2- الرغبة في الاندماج:
يصحب تلك الرغبة في الانفصال من جهة، رغبة في الاندماج في الجهة المغايرة.
فمن هجران اللغة العربية إلى الارتماء في أحضان الإنجليزية أو الفرنسية أو غيرهما، يجد المتحدث في نفسه انتماءً أكبر لثقافة اللغة التي يتحدث بها ورغبة أكبر في الاندماج فيها وفي سلوكيات أهلها.
فعلى سبيل المثال، يقوم الطلاب السود في المدارس بتبديل الشفرات بين الإنجليزية القياسية داخل الفصل والإنجليزية الأفريقية الأمريكية مع أقرانهم، لتعزيز مكانتهم الاجتماعية والاندماج بشكل أفضل مع نظرائهم البيض في المدارس.
وقد ربط ابن خلدون في مقدمته بين العصبية واللغة، وكيف أن اللغة تتشكل وتُصقل عبر التفاعل الاجتماعي.
«اللغة ملكة متقررة في النفوس بالصناعة، فإنّها تحصل بالتكرار، وهو خلق آخر من خلق العصبية، فإنّها لا تحصل إلّا بالاجتماع والتعاون».
3- العجز عن التعبير:
قد يكون أحد أسباب ظاهرة التناوب اللغوي كذلك العجز عن التعبير باللغة الأم بسبب فقر الثروة اللغوية الذي يكون راجعًا غالبًا إلى الدراسة بغيرها، فنجد السواد الأعظم من أطباء العرب لا ينفكون عن ذكر أسماء الأعراض والأمراض بالإنجليزية؛ ذلك لأنهم درسوا الطب بالإنجليزية، فما ظنك بمن درس منذ نعومة أظفاره جُل العلوم بالإنجليزية وغيرها من اللغات الأجنبية ولم يعرف عن العربية إلا اسمها، وقد لا يعرف حتى عن حروفها رسمها حتى إذا شبَّ صار تعدادًا فحسب من أهلها.
إذا رام أهل العربية العز في غيرها، فلا هم على إرثهم حافظوا ولا على حاضرهم بنوا، وضيعوا بذلك تاريخهم وحاضرهم فأنى يكون لهم مستقبل؟!
ويصدق حينئذ فيهم قول الرافعي: «إنما اللغة مظهر من مظاهر التاريخ، والتاريخ صفة الأمة، كيفما قلَّب أمر الله فالأمة قائمة في تاريخها، وإذا قامت اللغة قام التاريخ، وإذا زالت اللغة زال التاريخ وانمحت الأمة».
فاللغة ليست مجرد وسيلة للتواصل، بل هي وسيلة للحفاظ على الهوية والتاريخ، وضياع اللغة هو بداية لضياع الأمة نفسها.