منذ أن أشرق نور الإسلام في اليمن، انطلقت المنابر الدعوية من المساجد والقبائل، لتتحول إلى مدارس تربوية جامعة بين الفقه، الأخلاق، والعلوم؛ مما جعل هذا البلد منبعًا للعلم والحكمة، ليشهد عبر التاريخ دورًا فاعلًا في نشر رسالة الإسلام وتعزيز قيمه السمحة في المجتمع، مستندًا إلى إرثٍ غني من العلماء والدعاة الذين أسهموا في نشر الدعوة على الصعيدين المحلي والدولي.
وفي الماضي، كانت المنابر الدعوية اليمنية تشع بنور الإيمان في كل زاوية، معززة دورها التربوي والاجتماعي في توجيه الأجيال وترسيخ الهوية الإسلامية، ومع انتشار اليمنيين في مشارق الأرض ومغاربها، حملوا معهم دعوة الإسلام، لينشروا الفضيلة والقيم الأخلاقية أينما حلوا.
واليوم، يقف اليمنيون أمام إرث طويل من الدعوة التي لم تقتصر على الخطاب الديني فحسب، بل تجاوزته إلى ميادين الحياة كافة، عبر التجارة والهجرة ونشر الفضيلة في شتى بقاع الأرض، لكنه يواجه تحديات جسيمة نتيجة الصراعات الداخلية والتغيرات الاجتماعية الناجمة عن وسائل التواصل الحديثة.
وبالنظر إلى التغيرات العميقة التي شهدها اليمن في ظل الحرب الأهلية المستمرة، فضلاً عن التحولات التي تأثرت بها الدول الإسلامية الأخرى جراء وسائل التواصل الحديثة، يبقى السؤال المطروح: هل لا تزال المنابر الدعوية في اليمن قادرة على الحفاظ على دورها الريادي؟
تاريخ المنابر الدعوية باليمن
شهد اليمن في عهد النبي ﷺ انطلاقة إسلامية مبكرة بفضل جهود الصحابة الكرام أمثال معاذ بن جبل، وأبي موسى الأشعري، اللذين أرسلهما رسول الله ﷺ حاملين رسالة الإسلام وهدايته، فاستقبلهما أهل اليمن بحفاوة بالغة، لينجحا بفضل منهجيتهما الدعوية السليمة التي اعتمدت على الحوار والتعليم، في غرس بذور الإسلام في نفوس اليمنيين؛ حيث تميز ابن جبل بفصاحته وبلاغته في شرح معاني القرآن وتبيين أحكامه، بينما كان الأشعري يتمتع بحكمة بالغة في إدارة شؤون الناس وحل مشكلاتهم، وهو ما جذب إلى الإسلام قلوب أهل هذا البلد الطيب.
ومنذ وصول الإسلام إلى اليمن، تحولت المساجد إلى مراكز أساسية للتعليم والدعوة، حيث لم تكن مجرد أماكن للعبادة، بل كانت مدارس لتعليم القرآن والسُّنة وأصول الدين، فتخرج فيها علماء ودعاة أثروا في المجتمع وساهموا في بناء الهوية الإسلامية لليمنيين؛ ولعل من أبرز المساجد التي أدت هذا الدور، الجامع الكبير في صنعاء، الذي أسسه الصحابي معاذ بن جبل، واستمر دوره كمركز للعلم والدعوة عبر العصور.
وظلت الحركة الدعوية في اليمن نابضة بالحياة على مر العصور، فقد كان للدعاة اليمنيين دور كبير في نشر الإسلام ليس فقط في اليمن ولكن أيضًا في مناطق واسعة خارجه بفضل التجارة والهجرات اليمنية التي وصلت الدعوة إلى شرق أفريقيا وآسيا، وخاصة إلى إندونيسيا وماليزيا، ليساهم التجار والدعاة اليمنيون في إرساء قواعد الإسلام في تلك البلدان، وكان لهذه الحركة الدعوية تأثير كبير في توسيع دائرة الإسلام، وتحقيق التوازن بين الدين والثقافة المحلية.
واقع المنابر الدعوية اليوم
باتت المنابر الدعوية في اليمن المعاصر تواجه مجموعة من التحديات الكبيرة بسبب الأحداث السياسية والأمنية التي شهدها البلد، فمن ناحية شهدت العلاقات التجارية اليمنية تحولًا في العصر الحديث، حيث أصبح التركيز على الجانب المالي أكثر من الجانب الدعوي، ورغم أن التجار اليمنيين ما زالوا يحتفظون بالتقاليد الإسلامية، فإن التحديات المعاصرة أثرت على دورهم في نشر الإسلام، ومن ناحية ثانية أدت الحرب الأهلية إلى هجرة العديد من الدعاة والمصلحين، الذين هم أساس الدعوة في البلاد، وركنها الركين، وكان لذلك عميق الأثر على واقع الدعوة في اليمن، وفراغًا كبيرًا في الساحة الدعوية، ونتج عنه:
1- بروز قيادات اجتماعية من غير بيئة الدعاة؛ مما أنذر بانتشار أفكار ضالة وخرافية، فالمجتمع يحتاج إلى قيادات تهديه وتوجهه، وفي غياب الدعاة المؤهلين، قد يجد المجتمع نفسه تحت تأثير دعاة الفتنة والجهل.
2- يمثل الداعية حلقة وصل بين مختلف فئات المجتمع، وهجرته تؤدي إلى فقدان تلك الروابط؛ فعلاقات الدعم والمساندة التي بُنيت على مدى عقود يمكن أن تنتهي؛ مما يحد من تأثير الدعوة وينعكس سلبًا على الأنشطة الاجتماعية والخدمية المرتبطة بها.
3- أدت النزاعات وتغير الحكومات إلى انقسام المجتمع، مما صعّب توحيد الجهود الدعوية، كما تشهد المنابر التقليدية، مثل المساجد والخطب الدينية، تراجعًا ملحوظًا مقارنةً بوسائل الإعلام الحديثة.
4- أدى تطور ظاهرة التطرف في اليمن إلى انتشار فتاوى تكفيرية تدعو إلى العنف، وتؤثر على منابر الدعوة، فوجود شخصيات دينية تصدر فتاوى تكفيرية، وسط هذا المجتمع الذي يميل بطبعه إلى تقديس العلماء؛ سبب انقسامًا وفتنًا داخل المجتمع.
5- إعاقة عمل المؤسسات الدينية وتقييد حرية الدعوة، وهو ما عزز من انتشار الفكر المتطرف البعيد كل البعد عن وسطية الإسلام.
6- يؤدي التأزم السياسي والأزمات المستمرة في اليمن إلى تراجع الأنشطة الدعوية، حيث تنشغل المؤسسات الدينية بمعالجة آثار الصراع أكثر من التركيز على الأبعاد التوعوية.
7- عدم وجود إستراتيجية واضحة لتطوير المنابر الدعوية وهو ما جعل الجهود المبذولة تفتقر إلى التنسيق والتكامل.
8- اليمن، كحال كل دولنا العربية، أصبحت منابره الدعوية تواجه صعوبات في الوصول إلى الشباب، الذين يتعرضون لتأثيرات ثقافية عالمية تتعارض في أغلبها مع القيم الإسلامي، خاصة مع تزايد ظاهرة الانحلال الأخلاقي والابتعاد عن القيم الدينية في بعض الأوساط الشبابية.
ويرى المراقبون أن معالجة هذه السلبيات تحتاج إلى:
1- رؤية إيجابية وإرادة قوية من الدعاة في الداخل والخارج للحفاظ على المكتسبات الدعوية وتنميتها.
2- أن تعمل المؤسسات الدعوية على وضع إستراتيجيات وخطط شاملة تتضمن دراسة مستمرة للواقع الدعوي.
3- التركيز على التنسيق بين المؤسسات المختلفة لتجنب التكرار وتعزيز التعاون.
4- أن يدعم الدعاة المهاجرون زملاءهم في الوطن؛ مادياً أو معنوياً، فوجود داعية بديل لكل داعية هاجر يعد خطوة أساسية لضمان استمرار النشاط الدعوي.
5- المساهمة بالجهود الذاتية عبر تخصيص جزء من الرواتب لدعم الأنشطة الدعوية أو من خلال التفاعل مع الجاليات المحلية وتقديم الدعم المادي والمعنوي.
وأخيراً، المنابر الدعوية في اليمن بحاجة ماسة إلى جهود جماعية وفردية لإدارة الأزمات التي تواجهها، عبر التخطيط السليم، والتعاون المثمر، والوعي بأهمية دور الدعوة، حتى يحافظ اليمن على تراثه الدعوي الغني ويحقق مستقبلًا مشرقًا لهذه الرسالة السامية.