يعلمنا القرآن ألا ندخل في مبالغات تتعلق بالأشخاص في تزكيتهم أو تفضيلهم أو الثناء عليهم وذلك انطلاقًا من مبدأ القرآن (هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى) (النجم: 32).
وسوف نحتذي أثر القرآن في تحليل الفكرة المطروحة؛ وهي كيف يتحول الشخص إلى فكرة من خلال عدة سرديات نراها جديرة بالتوقف.
والقرآن في ذاته طرح هذا الفكرة، فكرة أن يتحول الشخص إلى فكرة وإلى قيمة عليا للأمة المؤمنة بفاعليتها وبلاغها، حيث طرح القرآن فكرة «أولو العزم من الرسل»، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون مثلهم وأن يقتدي بالصفات التي اتصفوا بها وهي الصبر وتحمل الابتلاء والبلاغ المبين وعدم التعجل على قومه؛ قال تعالى: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) (الأحقاف: 35).
فهذه مبدئية (مشروعية) طرح فكرتنا في هذه المقالة الموجزة: كيف تحول الشخص إلى فكرة: السنوار نموذجًا حيًا وشاهدًا؟ ونحاول الإجابة من خلال عدة سرديات ربما نجد فيها الإجابة، وإن كانت بالتأكيد لست إجابة وافية أو حصرية.
مقومات الفكرة: التاريخ
إن تاريخ الفكرة واضح عبر التاريخ الإنساني، وهي مدافعة الخير للشر، ومقاومة الحق للباطل، أما تجسيدها في قصتنا في مدافعة الاحتلال، ومقاومة دعوات الخذلان والاستسلام.
وهذه الفكرة توافق الفطرة من ناحية والمشروعية الإلهية من ناحية ثالثة، والسيرة العقلانية لحياة الإنسان على الأرض من ناحية ثالثة (أي موافقة الجانب الوضعي للفكرة).
فالفكرة ثابتة لا يخالفها إلى من كان على نقيضها الذي يخالف الفطرة والمشروعية الإلهية والسيرة العقلانية للبشر على الأرض، والمقابل لها هي الاستسلام والخذلان للشر والباطل ويمثلهما هنا (الاحتلال وحلفاؤه العسكريون والسياسيون والإعلاميون وغيرهم).
إن فكرة المدافعة والمقاومة واجبة إذن بكل معطيات الشرع والعقل والفطرة والتاريخ.
لا غبار، إذن، على الفكرة من حيث المشروعية، بل والوجوب في أوقات بعينها، وأهم هذه الأوقات: هو استلاب الحياة الإنسانية من قِبَل جهاز الشر والباطل (الاحتلال)، واستلاب المقدسات الإلهية، واستلاب المستقبل والطموح والأشواق والتطلعات الإنسانية.
إن حالات الاستلاب هذه توجب المدافعة، والمقاومة، لا تشرعنها فقط، وهذا المبدأ أقره القرآن وأوجبه وجوبًا: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَٰتَلُونَ بِأَنَّهُمۡ ظُلِمُواْۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ نَصۡرِهِمۡ لَقَدِيرٌ) (الحج: 39).
سرديات وضعية
ننتقل إلى من القيمة العليا للفكرة (المدافعة، والمقاومة) إلى سرديات وضعية حول شخصيتنا المذكورة يحيى السنوار (أبو إبراهيم)، فالرجل العادي بين الناس في ميلاده، ليس عاديًا في طفولته الباكرة، إذ إنه يكون في الصفوف الأولى التي شاركت في الانتفاضة الأولى (انتفاضة الحجارة 1987)، ويكون كما روى من أوائل من ألقوا حجارة على الاحتلال.
وهنا يلتقط الإدراك العقلي ما وقع في الإدراك الحسي، بل بالتأكيد كان قبل ذلك عندما عاش في وسط آليات الاحتلال وعبثه بمستقبله ومستقبل ملايين من الشعب الفلسطيني، بل عبث الاحتلال بخريطة فلسطين نفسها وحدودها وجغرافيتها بل وتاريخها الذي حاول أن يزوره بسرديات مزيفة.
ولكن كانت الانتفاضة الأولى محورًا رئيسًا لنقل كل هذا المعطى الواقعي إلى فكرة جديرة بالبعث واليقظة والإحياء والتشكيل من جديد، وهي فكرة اتخاذ القرار بالمصير المحتوم الذي قدره هذا الشخص (السنوار) لنفسه وهو مصير المقاومة والمدافعة، فلم يكن كما نقول هذا المسار خيارًا إستراتيجيًا لهذه الشخصية؛ لأن الخيار الإستراتيجي يمكن أن يتغير بالمساومات والمفاوضات في هذه الحالة، بل كان هذا المسار مصيرًا محتومًا قطعه على نفسه بألا يخرج منه إلا شهيدًا أو منتصرًا.
اعتبرت هذه الشخصية أن عمر الإنسان لا يقاس بعدد السنوات؛ أي العمر الطولي (كم لبثت؟)، ولكن يقاس ببعد العرض لهذا العمر (ماذا قدمت؟).
لم يستسلم الرجل للواقع المرير، ولم يستسلم لكل عناصر اليأس المحيطة (قوة وعتاد الاحتلال من خلال حلفائه الدوليين، استسلام البيئة الإقليمية للعدو، انهزام العقل العربي ناحية العدو، الإحباط من مناصرة العرب والمسلمين، خيارات السلام الزائف من الدول العربية الكبرى، تحالفات دولية ضد أفكار المدافعة والمقاومة، استسلام بعض أصحاب التاريخ المقاوم للأفكار الزائفة حول السلام والمفاوضات).
إلا أن الرجل لم يستسلم لكل هذا المناخ الطارد لفكرة المقاومة والباعث على الخنوع أو اليأس، بل على النقيض من ذلك اتخذ الرجل من كل هذه العوامل المثبطة دافعًا ووقودًا ناحية تطوير فكرة المدافعة والمقاومة، واعتبر أن النفي لكل ما هو وضعي أمامه هو السبيل الوحيد لدفعه ومقاومته، واعتبر كل هذه العوائق مثمرة في الطريق والسير والمسير والمسار والمصير.
فكانت هذه العوائق والمثبطات وقودًا انطلق من رمال غزة ومن رمادها ناحية فعل لم يشهد له تاريخ المدافعة مع الصهيونية مثيلاً خلال ما يقرب من 80 عامًا.
عاش الرجل بين جدران الاحتلال ما يقرب من 23 عامًا يقول فيها: علمني السجن أن الحرية ليست مجرد حق مسلوب، بل هي فكرة تولد من الألم وتُصقل بالصبر، ويقول للسائرين: وصيتي لكم ألا تهابوا السجون فهي ليست إلا جزءًا من طريقنا الطويل نحو الحرية.
هاتان المقولتان توضحان معنى الحكم الذي سبق على البيئة المثبطة والمحبطة، التي جعلها السنوار عوائق مثمرة، أثمرت في النفس التوق نحو الخلاص الكامل، وليس الخلاص الجزئي، أثمرت في النفس الصبر والتحمل، وأن المصير المحتوم لا يمكنه أن يُحصَّل الثمار سريعًا بل مثل شجر الزيتون لا بد وأن يأخذ الوقت الكافي حتى يثمر ثمارًا طيبة.
حاول الاحتلال تشويه صورة السنوار على مدار عام كامل، والحق يقال: إنه تشويه لم يكن المقصود به السنوار فحسب كشخص، بل السنوار القيمة التي أبدعت فكرة «طوفان الأقصى»، وبحسب ما أحدثته المعركة في النفس والعالم الإنساني المعاصر، لم يكن مجرد عمل بطولي، أو تخطيط عبقري، أو تنفيذ غير مسبوق تجاه العدو الذي استباح على مدى 80 عامًا الأرض العربية والمقدسات الإسلامية والعقل والروح والثروات والعلاقات.
الحقيقة أن الفكرة تبقى أكثر أثرًا، وأعمق فعلًا في النفس والعقل رغم أن مظهرها حدث وضعي، لكن الفكرة التي قدمتها «طوفان الأقصى» تحولت إلى مبدأ وقيمة في التاريخ المعاصر، والمنتظر أن تشكل طريقًا مثمرًا ليس فقط لتحرير الأرض المسلوبة، ولكن لتحرير كل الإنسان العربي والعالمي من براثن الصهيونية الرأسمالية وكل حلفائها الطغاة على البشر، فما تحالف مع الصهيونية إلا كل الطغاة.
خط السنوار «طوفان الأقصى» وهو ورفاقه الحائزون على شرف هذا البناء والتأسيس الجديد للمدافعة والمقاومة، بكل القيم والقيام والنهوض غير المسبوقين.
نعود إلى الصورة الأخيرة للسنوار، إن الصورة في الغالب بالأدوات المعاصرة تحاول أن تفلتر الواقع وتقدمه بصورة مغايرة، إلا أن صورة السنوار وهو قابض على سلاحه، مشتبكًا ومؤديًا بعصاه ما لم تستطع جيوش بآلاتها وعددها أن تؤديه تجاه العدو، قدمت صورة السنوار الأخيرة تفصيلات عديدة للفكرة (المدافعة، والمقاومة) سوف تبقى في ذهن هذا الجيل وكل الأجيال القادمة التي سوف تستلم راية الفكرة وتستكملها وتسير في نهرها مصيرًا محتومًا ومحررًا ومتحررًا من كل السرديات الكاذبة التي رسمها الاحتلال على مدار عام أو أكثر.
بل إن هذه الصورة الأخيرة قدمت تكذيبًا لا يتعلق فقط بالسرديات تجاه الشاهد الشهيد السنوار، بل قدمت تكذيبًا لكل سرديات العدو ناحية السلام، والمفاوضات والدبلوماسية، والتطبيع.
ومن المفارقات أن الصورة التي قدمت كل ذلك وأكثر معنى وكيفًا جاءت من لدن الاحتلال نفسه، حتى تنفض عن الذهن أي محاولة للظن أو التشكيك أو التكذيب في المعنى الذي حول الشخص إلى فكرة.