ليس أحب للنفس من أن ترى ثمرة عاجلة لخير بذرته، وإن كانت ثمرة الاستقامة على دين الإسلام الآجلة هي الجنة؛ فإن ثمرته العاجلة هي التزكية، ولأجل ما شاب هذا المفهوم العظيم من تفريط بإهماله وإفراط بادعائه عن غير حقيقة كانت هذه الكلمات.
امتدح الله تعالى في كتابه من زكى نفسه، فقال تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا) (الشمس: 9)، واختصر عز وجل فيها لُب دعوة الرسل؛ حتى أمر موسى عليه السلام أن يقول لفرعون: (هَل لَّكَ إِلَىٰ أَن تَزَكَّى) (النازعات: 18).
سر عجيب!
ومن الأسرار العجيبة ما يُفهم مما جاء في ترتيب ذكر التزكية متباينًا في آيات القرآن، فذكر الله عز وجل دعوة إبراهيم عليه السلام: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (البقرة: 129)، فجاءت فيها التزكية متأخرة عن الكتاب والحكمة، في الحين الذي جاءت فيه التزكية في سائر المواضع الأخرى بعد تلاوة الآيات مباشرة وقبل تعليم الكتاب والحكمة، مثل ما في قوله تعالى: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) (آل عمران: 164)، ومثله في «البقرة» (151)، و«الجمعة» (2).
وسبحان الله وتعالى ألا يكون خلفَ اختلاف الترتيب في الآيتين مقصدٌ جليلٌ، وقد قيل فيه: إن دعاء إبراهيم عليه السلام جاء في موضع التحقق واقعًا، فإن التزكية تحصل للبشر بعد معرفتهم «آياته» الدالة على الله عز وجل ثم تعلمهم كلامه (الكتاب) وسُنة رسله (الحكمة)، أما في غيره من المواضع فقد جاءت التزكية مقدمةً لأنها ذُكرت في سياق منة الله عز وجل على عباده المؤمنين، فإن التزكية التي يجدونها في نفوسهم من أثر تلاوة آيات الله وتعلم كتابه وسُنة رسوله هي الثمرة العاجلة المرجوة من ذلك.
كيف يزكي المرء نفسه؟
الإجابة البسيطة لهذا السؤال الكبير هو أن يفعل المرء كل صلاح مما أمر الله عز وجل به ويترك كل فساد نهى عنه، قال ابن قتيبة: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا)؛ أي: من زكى نفسه بعمل البر واصطناع المعروف، (وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا)؛ أي: دس نفسه -أي أخفاها- بالفجور والمعصية»(1).
وهذا العنوان الكبير يقع تحته سائر الأسماء الشرعية مثل الإيمان والتقوى والإحسان والتوكل والحب لله، ومضامينها والواسعة من تفاصيل الأعمال القلبية وأقوال اللسان وأفعال الجوارح، ولهذا فإن باب التزكية واسع في علوم الشريعة، وقد صنف فيه الكثير، وما زال.
تزكية السلف الصالح
وقد كان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم متحريًا لتزكية نفسه، وقد كان من دعائه: «اللهمَّ آتِ نفسي تقواها، وزكِّها أنت خيرُ مَن زكاَّها، أنت وليُّها ومولاها»(2)، ويُفهم من الدعاء ألا تزكيةَ إلا بتوفيق الله، قال تعالى: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَىٰ مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (النور: 21).
وسار على هذا الهدي المهديون من بعده، وعلى رأسهم صحابته الكرام، قال جندب بن عبدالله: «كنَّا معَ النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ ونحنُ فتيانٌ حزاورةٌ فتعلَّمنا الإيمانَ قبلَ أن نتعلَّمَ القرآنَ ثمَّ تعلَّمنا القرآنَ فازددنا بِه إيمانًا»(3)، وقال عبدالله بن عمر: «لقد عِشْنا بُرهةً مِن دَهْرِنا، وإنَّ أحدَنا يُؤْتَى الإيمانَ قبلَ القُرآنِ، وتنزِلُ السُّورةُ على محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فيتَعلَّمُ حلالَها وحَرامَها، وما ينْبَغي أنْ يُوقَفَ عندَه فيها كما تَعلَّمونَ أنتم القُرآنَ»(4).
ومثل هذا كثير مروي في كتب السُّنة، وهكذا كان استعداد السلف من الصحابة والتابعين لتحصيل التزكية الإيمانية كثمرة مما يعاينون من نصوص الوحي الشريف.
التزكية بين الأصيل والدخيل
وقد سار على منهج السلف الصالح ممن اشتُهروا بهذا الباب من جهتي العلم والعمل خلق كثير، وقد كان يفرق أهل العلم المحققين كشيخ الإسلام ابن تيمية بين حال مَن كان مِن «مشائخ الإسلام وأئمة الهدى الَّذيْن جعلَ اللّهُ تعالَى لهم لسْان صدق في الأمةِ، مثْلَ (وذكر منهم خلقًا كثيرة)»(5)، وبين «مَن تشبه بهم ممن هو عاص أو فاسق أو كافر، فيتظاهر بدعوى الولاية لله وتحقيق الإيمان والعرفان وهو من شر أهل العداوة لله وأهل النفاق والبهتان»(6).
ويكمن الفرق المميز لكلا النوعين في الاستقامة على الأمر والنهي الشرعيين، كما قال رحمه الله: «فأما المستقيمون من السالكين (وذكر منهم خلقًا)، فهم لا يسوِّغون للسالك ولو طار في الهواء، أو مشى على الماء، أن يخرج عن الأمر والنهي الشرعيين، بل عليه أن يفعل المأمور، ويدع المحظور إِلى أن يموت، وهذا هو الحق الذي دل عليه الكتاب والسُّنة وإِجماع السلف وهذا كثير في كلامهم»(7)، وقال: إن كلامهم رحمهم الله «يدور على اتباع المأمور وترك المحظور والصبر على المقدور ولا يثبت طريقاً تخالف ذلك أصلًا»(8).
حقيقة انحراف بعض الصوفية
ويُفهم مما أُثر عن الأئمة الأعلام في انحراف خلق من الصوفية أنهم راموا مرتبة الإحسان من غير أن يحققوا قبله مرتبتي الإسلام والإيمان، وكأنهم أرادوا قطف ثمرة التزكية من غير أن يسبقوها ببذرة القرآن والسُّنة!
ولهذا، فإن المُمَيِّز لمن تزكى حقيقةً لا المدعي هو التزام الكتاب والسُّنة، قال الشافعي: «إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء ويطير في الهواء فلا تعتبروا به حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسُّنة».
ولما سبق فينبغي أن تُصان التزكية -علومها وأعمالها- عن الإهمال بدعوى انحراف كثير ممن ادعوها، ومن الإفراط في طلبها عن غير تحقيق لأصول الإيمان وفرائض الإسلام.
___________________
(1) غريب القرآن، ابن قتيبة (1/ 530).
(2) صحيح مسلم (2722).
(3) رواه ابن ماجه (52)، وصححه الألباني.
(4) رواه الحاكم (1/ 196)، وقال: صحيح على شرط الشيخين.
(5) مجموع الفتاوى، ابن تيمية (2/ 452).
(6) المرجع السابق (15/ 427).
(7) المرجع السابق (10/ 516).
(8) المرجع السابق (8).