القرآن كتاب الحقيقة الكاملة، واللغة أداة لكشف هذه الحقيقة، واعتنى القرآن عناية كبرى بمنهجية اللغة في كشف الحقيقة، حيث تتبع كل خطاب مضل وكاذب بكشفه وبيان حقيقته وبيانه للناس، وتمحيص ما يتضمنه الخطاب من الكذب والتضليل.
كما دعم القرآن لغة الحقيقة بصورة عديدة، فأظهر اليقين على الشك أو الظن؛ (إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا) (النجم: 28)، ونقض التقليد الأعمى للآباء والأجداد؛ (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ) (المائدة: 104)، وطالب بالتثبت بالدليل العقلي والحسي قبل إصدار الحكم؛ (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) (الإسراء: 36)، واعتنى بالبرهان العقلي؛ (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ) (النمل: 64)، وأمر بالسير في الأرض للبحث عن دلائل المعرفة اليقينية وعدم التسليم بالانطباعات؛ (فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا) (المائدة: 137).
ونعى على أولئك الذين يرفضون الحقيقة القرآنية ووصفهم بأنهم تخلوا عن وسائل المعرفة وعملياتها الفطرية في الذهن الإنساني، وقال لهم في لغة ناقدة: أفلا تبصرون، أفلا تعقلون، أفلم يسيروا، أفلم ينظروا.. وهكذا.
المنافقون والتضليل اللغوي
أراد المنافقون أن يخضعوا منطق النبوة والوحي لعوامل التضليل باستخدام لغة مضللة تعمي الحقيقة، ويعموا على المؤمنين بكلماتهم الكاذبة فكانوا يدعون الإيمان وهم في الحقيقة كافرون بالوحي، يعتمدون نهج اللغة الوظيفي (المنافق)، فيختارون من الألفاظ والكلمات ما يناسب كل موقف بهدف النفع وتجنب الضرر.
فيغيرون مسميات اللفظ ومعانيه ودلالاته الحقيقية، ومن ذلك: يدعون تارة أنهم مؤمنون بالله واليوم الآخر، وتارة أنهم مصلحون في الأرض، ثم يعودون إلى القول أن الذين آمنوا هم السفهاء الضعاف غير الجديرين بالاحترام والتقدير وأنهم صفوة القوم وأعلى قمته بما امتلكوا من الأموال والنفوذ.
حاولوا أن يغيروا المعاني والدلالات الوضعية للكلمات ومسميات الأسماء على اعتبار أنهم يمتلكون الفضاء الإعلامي والثقافي والقوة والنفوذ في المجتمع، وأنهم وحدهم يحددون الدلالات المناسبة والمعاني للكلمات المستخدمة، لا يستطيع أحد أن يغير من دلالات هذه الكلمات، ولا أن يعيد مسميات الأشياء التي حددوها.
لكن القرآن الكريم أخرج ما كانوا يحذرون من بيان لكذب لغتهم، وكلماتهم التي لا تَصْدُق على الدلالات التي يشيرون إليها، وأوضح لهم في بيان إلى يوم القيامة بأنهم ليسوا مؤمنين، وأن ما يقومون به من خداع لغوي يخدعون به أنفسهم فقط بتماديهم في هذا الاستخدام المضلل، وأن الذي يقومون به من عمل بين الناس وفي الأرض –بكل صوره وأشكاله- لا يطلق عليه أبدًا إصلاح، بل هو عين الإفساد، ومع استدامتهم في هذا الإفساد في الأرض أرادوا أن يجعلوه صورة للإصلاح باستبدال المعاني والدلالات للفظتي الإصلاح والإفساد.
يرسم القرآن الحكيم ممارسة التضليل اللغوي في واقع المجتمع من قِبَل المنافقين، ومدافعة لغة القرآن لاستعادة معاني ودلالات الأسماء والمسميات؛ أي استعادة الحقيقة التي حاول المنافقون تغييبها في التصورات والمفاهيم، جاء هذا البيان القرآني في جانب منه في صدر سورة «البقرة» اقرأ: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ {8} يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ {9} فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ {10} وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ {11} أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ {12} وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَـكِن لاَّ يَعْلَمُونَ) (البقرة).
الأعراب وأغاليط اللغة
سجل القرآن مشهدًا آخر للتلاعب باللغة، وتوظيفها حيث يريد القائل وحيث يرغب في الخداع والتضليل العام بها، وهو مشهد الأعراب وزعمهم الإيمان بقولهم آمنا، قال تعالى: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا ۖ قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ) (الحجرات: 14).
إن هذه الفئة استسلمت خوفًا من قوة المسلمين، ولم تؤمن كما شروط الإيمان، كان الخوف هو الدافع وراء قولهم الشهادتين «لا إله إلا الله محمد رسول الله»، وأرادوا أن يُعَامَلوا كما يُعامل المهاجرون الذين تركوا أموالهم وممتلكاتهم وكل شيء في سبيل الله، وصدقوا في هجرتهم، في وقت عُدَت فيه الهجرة نسبًا بين المهاجرين.
أما هؤلاء الأعراب فظلوا في قلوبهم على كفرهم وإنكارهم النبوة والقرآن، ولكنهم ادعوا الإسلام في سنة جدبة أفسدوا فيها طرق المدينة بالعذرات وأغلوا أسعارها، وكانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أتيناك بالأثقال والعيال ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان فأعطنا من الصدقة، وجعلوا يمنون عليه! ويستخدمون لغة الإيمان، فجاءت لغة القرآن كاشفة لحقيقتهم بأنهم لم يؤمنوا ولكنهم استسلموا خوفًا وطمعًا؛ لأن لفظة الإيمان تعني طاعة الله ورسوله في السر والعلن، أي في القلب والسلوك الظاهري، وهو ما لم يتوفر لدى هؤلاء الأعراب الكاذبين في قولهم بالإيمان.
القرآن وعالم اللغة المضاد للحقيقة
يبين القرآن أن لكل كلمة ولفظة مكان ومكانة، وقيمة وموضعًا ودلالة ومعنى، وإن المضلين يستبدلون كل هذه الرتب والدلالات في خطابهم لتشويه الذهن الإنساني، والتلاعب بمستقرات هذه الرتب والدلالات للكلمات، وبناء عالم للغة مختلف عن الحقيقة، والخطورة تبدو في ترك هؤلاء المتلاعبين بالألفاظ والكلمات في غيّهم وتضليلهم للعقل الإنساني بما يهدد الوعي الفردي والمجتمعي الذي يتشكل عبر خطاب الحقيقة، ويتهدد عبر خطاب الكذب والنفاق اللغوي والأغاليط والتلاعب بالأسماء والمسميات.
إن الخطاب التضليلي يقوم ببناء عالم للغة خاص باستهداف العقل الإنساني، وفي ذلك يبني مصطلحاته ومفاهيمه التضليلية، ويفارق المعاني والدلالات الحقيقة والحقة للألفاظ والكلمات.
إن معيار القرآن في كشف مغالطات هذا العالم المنافق للغة، هو تمظهر السلوك أي التعبير عن ارتباط القول بالعمل، فالتوافق بينهما يعني الصدق الذاتي للقول والكلمة، والتباين بينهما يعني الكذب الذاتي في الوجدان والخطاب جملة؛ (كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ) (الصف: 3).
والمعيار الثاني: هو المعيار الوجداني؛ (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ) (الحجرات: 14)، وهو متوافق مع المعيار الأول ويؤدي إليه، لأن الإنسان السوي يسلك بما يتوافق مع وجدانه ويؤمن به ويعتقد فيه، ويتجنب كل ما لا يتوافق مع وجدانه ولا يؤمن به ولا يعتقد في جدارته واستحقاقاته كي يسعى إليه بجوارحه ويبذل في هذا السعي من الجهد والتضحية.
لهذا كانت لغة القرآن كاشفة للغة هذا العاَلم الـمُضل، الذي يستهدف الحقيقة أول ما يستهدف فلا يريد للعقل أن يصل أو يعتقد في أي حقيقة، ثم يستهدف الوعي الإنساني الذي يرتكز بالأساس على ثلاث حقائق، هي: الحقيقة الإلهية، والحقيقة الكونية، والحقيقة الاجتماعية، ولو تتبعنا القرآن الكريم لوجدنا أن عالم اللغة المضل يسعى إلى تشويه هذه الحقائق الثلاث، وإلى إحداث اضطراب في العقل الإنساني في تصوره لهذه الحقائق حتى لا يتكون الوعي الحق نحو هذه الحقائق الكبرى.
ولقد وعى القرآن هذه المحاولات التضليلية وسعى إلى بيانها وتفكيكها وبيان تهافتها وفقًا لمعايير ثابتة تعتمد على العقل والفطرة والتاريخ.