(وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) (آل عمران: 140)، ومن ذا يستطيع أن يضمن ثبات الحال ولو كثر ماله، وبقاء القوة وإن كان ذا عزوة وعدد، وتقلب الزمان وإن صام وصلى وملأ الإيمان قلبه، إن حال الدنيا بين أمرين لا ثالث لهما، إما ابتلاء فيلزمه الصبر، وإما رخاء فيلزمه الشكر، وبين رضا عن الله عز وجل، أو سخط عليه سبحانه.
والرضا حالة بين العبد وربه، لا يمكن رصدها بمجرد التلفظ بها، فقد يذكره المرء على لسانه ألف مرة وما هو براض، وقد يتلقى أقدار الله صامتاً وقلبه عامر بالرضا في كل حال،
والرضا هو رضا العبد عن الله؛ بألا يكره ما يجري به قضاؤه، ورضا الله عن العبد أن يراه مؤتمراً بأمره منتهياً عن نهيه، وهو خلق محبب لله تعالى، في الجنة يسأل الله عز وجل أهلها: هل أنتم راضون؟ فأي مكانة تلك؟! يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ لأَهْلِ الْجَنَّةِ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ، فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لاَ نَرْضَى، وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، فَيَقُولُ: أَنَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالُوا: يَا رَبِّ! وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي فَلاَ أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا» (رواه البخاري، ومسلم)، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ مَنْ رضي بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً» (أخرجه مسلم).
ويحفز الله عز وجل عباده على التحلي بخلق الرضا وتسليم أمرهم كله له سبحانه راضين به، فيقول عز وجل: (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {162} لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ {163} قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ) (الأنعام).
ويتحرك المسلم حركته في الأرض كلها لابتغاء مرضاة ربه سبحانه، غير منتظر أن تأتيه، وإنما ساعياً إليها، لسان حاله دائماً: (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى) (طه: 84)، (وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ۚ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة: 72).
وفي مقام المقارنة بين الراضين والساخطين يقول تعالى: (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ) (آل عمران 162)، وأعلى الرضا هو ما كان بالإسلام وإتمام نعمة الله عز وجل على البشرية إذ رضي الله عنها وكرمها بالإسلام فقال تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) (المائدة: 3).
ويحث النبي صلى الله عليه وسلم أمته على الإقرار بالرضا بالصباح والمساء لمكانته السامية عند الله عز وجل، فعنْ ثَوْبَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَالَ حِينَ يُمْسِي: رَضِيتُ بِاللهِ رَبًّا، وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا، كَانَ حَقًّا عَلَى اللهِ أَنْ يُرْضِيَهُ» (أخرجه التِّرْمِذِي).
أعلى درجات الرضا وأنواعه
وللرضا أنواع ودرجات، أولها يقول فيها ابن القيم(1): الرضا على ثلاث درجات؛ الأولى: رضا العامة، وهو الرضا بالله ربا، وتسخط عبادة ما دونه، وهو يطهر من الشرك الأكبر.
1- الرضا بالله رباً: ألا يتخذ رباً غير الله تعالى يسكن إلى تدبيره، وينزل به حوائجه، ويكون هو غايته، قال تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ) (البقرة: 207)، وقال تعالى: (لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَٰلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) (النساء: 114)، ويقول سبحانه: (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير) (البقرة: 265).
ورضا الله عز وجل أجراً وجزاءً للمؤمنين، فقال تعالى: (قَالَ اللَّهُ هَٰذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (المائدة: 119)، ويقول تعالى: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَٰئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (المجادلة: 22)، (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) (البينة: 8).
2- الرضا بالإسلام دينًا، وهو أن ترضى بأحكام الدين وشرائعه وعباداته وتكليفاته وعقيدته، وأن تنفذها بحب ورضا تماماً.
3- الرضا بمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، أن تحبه كمسلم أكثر مما تحب نفسك، تتأسى به وتتلمس خطاه وتحب سُنته وسيرته.
4- الرضا بالقضاء والقدر خيره وشره، يقول تعالى: (فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) (الأعراف: 144).
وهناك رضا مذموم، وهو الرضا بالباطل، وليس على المسلم أن يرضى بالباطل مهما كانت طغيانه، وعليه أن يقاومه بأكثر من سبيل وعلى أكثر من مستوى أقلها الإنكار القلبي، فيقول تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ {112} وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ) (الأنعام)، ومنه الرضا بالقعود عن الجهاد، وقد ذم الله عز وجل هؤلاء الهاربين من فريضة الجهاد، يقول تعالى: (وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَجَاهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُواْ الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُن مَّعَ الْقَاعِدِينَ {86} رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ) (التوبة).
ثمرات الرضا
1- دليل على إيمان العبد، يقول تعالى: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) (الفتح: 29).
2- الراضون يفوزون بجنة الله عز وجل: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيم) (التوبة: 100).
3- اكتمال الإيمان بحسن الظن في الله تعالى والرضا بحكمه، يقول تعالى: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ {173} فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) (آل عمران).
4- الفوز بوعد الله عز وجل للراضين بالجنة، يقول تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة: 72).
كيف يكتسب المؤمن الرضا؟
وحتى يتحقق الرضا في نفس المسلم عليه أن يعمل عقله ويفكر في كافة أقدار الله التي تمر به، ويقارنها بقصة موسى عليه السلام والرجل الصالح، فهو قد قتل الصبي، وقد خرق السفينة، وقد أقام الجدار، كلها تمثل أقدار الله عز وجل وظاهرها الشر، لكن باطنها الخير لأصحابها، ولن يخرج حال المسلم عن تلك الأحوال، بين الموت، وخسارة المال، وأعمال لا تفسير لها سوى أنها حكمة الله عز وجل في خلقه، وأنه سبحانه أعلم بما ينفعهم، فلنسلم الأمر لله، ونتفكر في حكمة الله، فإن لم نجد، فحتماً له سبحانه حكمة.
_______________________
(1) مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، ابن القيم الجوزية، ج2، ص179.