العمل الخيري بمؤسساته وأفراده يمثل ركيزة أساسية في بناء المجتمعات ودعم الفئات المحتاجة، ومع ذلك، فإن هذه المؤسسات ليست بمنأى عن الوقوع في الأخطاء، كونها جزءًا من العمل البشري الذي يعتريه النقص بطبيعته، فكما أن المؤسسات التجارية أو الحكومية قد تواجه تحديات وإخفاقات، فإن العمل الخيري كذلك يمكن أن يشهد أخطاءً سواء في الإدارة، أو التنفيذ، أو حتى في اختيار الأفراد.
من الأخطاء الشائعة في التعامل مع المؤسسات الخيرية النظر إليها بقداسة مطلقة، وكأنها لا يمكن أن تخطئ أو تُساء إدارتها، هذه النظرة المثالية قد تؤدي إلى صدمة مجتمعية عند وقوع أي خطأ، مهما كان حجمه، لذلك، من المهم أن نفهم أن العمل الخيري، كغيره من الأعمال، يعتمد على جهود بشرية قد تصيب وقد تخطئ.
حادثة عامل الزكاة.. نموذج للواقعية والقيادة الرشيدة
حادثة عامل الزكاة في عهد النبي ﷺ تقدم نموذجًا واضحًا لهذه الواقعية، فاختيار النبي ﷺ لعامل يجمع الصدقات كان اجتهادًا بشريًا، لكنه أثبت لاحقًا عدم كفاءته للمهمة، ومع ذلك، لم يؤدِ هذا الخطأ إلى فقدان الثقة في منظومة الزكاة أو رسالتها، بل تمت معالجته بحكمة وشفافية عززت من مكانتها وأمانتها.
دروس قيادية من حادثة عامل الزكاة
حادثة عامل الزكاة تحمل العديد من الدروس القيادية التي يمكن تطبيقها في إدارة العمل الخيري اليوم:
1- الواقعية في التوقعات البشرية: القائد الناجح يدرك أن البشر معرضون للخطأ، حتى عند اختيارهم بناءً على معايير دقيقة، لذا يجب اعتماد آليات متابعة وتقييم مستمرة لضمان الأداء.
2- الشفافية في معالجة الأخطاء: النبي ﷺ لم يتردد في مواجهة الموقف علنًا، مبينًا الخطأ ومُذكرًا بالعواقب، وهذا يرسخ أهمية الشفافية عند وقوع أي خلل، لضمان الحفاظ على ثقة الناس في المؤسسات.
3- الفصل بين الأفراد والمنظومة: عند وقوع خطأ عامل الزكاة، لم يؤدِ ذلك إلى تشويه صورة منظومة الزكاة أو رسالتها، هذا درس مهم في الفصل بين خطأ الأفراد وأهداف المؤسسة، والعمل على إصلاح الأول دون الإضرار بالثاني.
4- المساءلة والعدل: النبي ﷺ طبق مبدأ المساءلة بوضوح، مؤكدًا أن المسؤولية تتطلب تحمل التبعات عند الخطأ، يدعو هذا إلى وضع نظم حوكمة واضحة تُحاسب العاملين بناءً على معايير عادلة.
5- استثمار الأزمات للتعليم والتطوير: النبي ﷺ لم يكتفِ بحل المشكلة، بل استغلها كفرصة لتعليم الأمة مبدأ النزاهة في العمل العام، المؤسسات القيادية يمكنها تحويل الأزمات إلى دروس تُثري العمل المؤسسي وتمنع تكرار الأخطاء.
6- تطوير آليات الاختيار: اختيار العامل جاء بناءً على اجتهاد بشري، مما يؤكد أهمية تطوير آليات اختيار العاملين وفق معايير واضحة تشمل الكفاءة والأمانة، مع تدريبهم باستمرار على القيم المؤسسية.
7- ترسيخ النزاهة كقيمة أساسية: خطبة النبي ﷺ أوضحت أن أي مسؤولية عامة يجب أن تُدار بأقصى درجات الأمانة، هذا يُبرز أهمية النزاهة كركيزة أساسية في العمل الخيري، لضمان استمرارية الثقة.
8- التوازن بين النقد والحفاظ على المنظومة: النبي ﷺ واجه الخطأ دون أن يسمح له بتقويض منظومة الزكاة، هذا يوضح أهمية النقد البناء الذي يهدف للإصلاح دون تهديد استمرارية العمل أو فقدان ثقة المجتمع.
تجنب التعميم والاتهامات
عند وقوع خطأ في مؤسسة خيرية، يتعين علينا أن نتعامل مع الحدث بعقلانية دون تعميم أو اتهامات واسعة، تعميم الأخطاء أو اتهام جميع العاملين في القطاع يضر بسمعة العمل الخيري ككل، ويثبط من جهود المخلصين الذين يعملون ليل نهار لخدمة المحتاجين، النقد مطلوب، لكنه يجب أن يكون بناءً ومحددًا، مع تقديم الحلول التي تساعد على الإصلاح بدلاً من الهدم.
الحفاظ على العمل الخيري وتنقيته
رغم الأخطاء التي قد تقع، فإن الحفاظ على العمل الخيري واجب مجتمعي، فهو يمثل قناة مهمة لتقديم المساعدة الإنسانية وتخفيف معاناة الفئات الضعيفة، لذلك، يجب أن تركز الجهود على تنقية العمل الخيري من الممارسات الخاطئة من خلال:
1- تعزيز نظم الشفافية والمساءلة.
2- تطوير معايير لاختيار العاملين وتقييم أدائهم بشكل مستمر.
3- الاستثمار في تدريب العاملين على النزاهة وأخلاقيات العمل.
العمل الخيري ليس معصومًا من الأخطاء، لكنه في ذات الوقت ليس ميدانًا لتعميم الاتهامات أو التشكيك المبالغ فيه، الواقعية تقتضي منا الاعتراف بالنقص البشري، والعمل على إصلاحه دون أن نفقد الثقة في رسالة الخير، فالمجتمعات التي تحسن إدارة النقد وتعزز مناخ الإصلاح هي التي تستطيع أن تحافظ على هذه المؤسسات كأداة فاعلة في نشر الرحمة والعدالة الاجتماعية.
حادثة عامل الزكاة ليست مجرد حادثة تاريخية، بل نموذج عملي للإدارة الرشيدة، حيث تمت معالجة الخطأ بشفافية وعدل مع الحفاظ على ثقة المجتمع في المنظومة، إذا طبقت المؤسسات الخيرية هذه الدروس، فإنها ستصبح أكثر كفاءة وقدرة على تحقيق رسالتها الإنسانية، مما يعزز مكانتها كمصدر للنفع والإحسان في المجتمع.