تعددت أشكال التفاعل والتعاون بين الأمم والحضارات المختلفة على مر التاريخ، وشهدت مختلف مراحله أنماطاً متعددة من الروابط تتناسب مع مستوى التطور الإنساني والاجتماعي الذي وصلت إليه البشرية، وترتبط المنظمات الدولية كأحد أشكال التعاون الحديث والتكامل بين الدول بالقرن العشرين تحديداً ما بعد الحرب العالمية الأولى، وكان حفظ الأمن والسلم العالميين وتعزيز جهود التعاون الدولي الأهداف المعلنة لغالب هذه المنظمات.
لكن طفرة النمو الحقيقية لتشكل وزيادة هذه المنظمات كان بعد الحرب العالمية الثانية، فانتصار الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة وخروجها من الحرب كقوى عظمى، سمح لها بتأسيس النظام الدولي الجديد وفق رؤيتها ومصالحها، والتنافس مع المعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفييتي آنذاك دفعها لتأسيس العديد من المنظمات الدولية لخدمة هذه المصالح وبسط هيمنتها على المجتمع الدولي، من خلال اعتماد قيم وآليات النموذج الغربي داخل هذه المؤسسات، ونشرها في العالم عبر برامج الدعم الاقتصادي والتنمية أو الثقافة والتعليم.
وفي ذات السياق، وتحديداً في العام 1943م، ومع تصاعد نفوذ الولايات المتحدة الأمريكية، تأسست مؤسسة «راند» البحثية على يد فالتر ل. بيدل سميث، وهنري هارنينغ، بدعم من القوات الجوية الأمريكية؛ بهدف تقديم أبحاث وتحليلات تستفيد منها هذه القوات والحكومة الأمريكية في التخطيط العسكري الإستراتيجي.
ومع اهتمام مكثف من قبل الولايات المتحدة بكيفية تشكيل «الشرق الأوسط» بما يتناسب مع مصالحها، جاءت توصيات «راند» بضرورة موازنة القوى داخل المنطقة بما يتناسب مع مصالح الولايات المتحدة، وضرورة تعزيز القوة العسكرية «الإسرائيلية» في مواجهة الدول العربية المجاورة.
وعلى الرغم من استقلال مؤسسة «راند» عن القوات الجوية الأمريكية في خمسينيات القرن العشرين، فإنها ظلت مرتبطة بالحكومة وكافة المؤسسات الأمريكية، وظلت تحليلاتها مرجعاً ومبرراً للكثير من السياسات الأمريكية.
بالإضافة لارتباط «راند» بمصالح الولايات المتحدة منذ نشأتها، حتى وإن استقلت مؤسساتياً بعد ذلك، لكن بقاء التمويل ينزع عن المنظمة ما تدعيه من استقلال ابتداء، ويشكك في موضوعية ما تقدمه من أبحاث، لكنها مع مرور الوقت أيضاً ارتبطت بشبكة من الممولين ذوي المصالح المختلفة؛ ما يثير الشكوك حول نزاهة واستقلالية الأبحاث التي تقدمها.
وفي السنوات الأخيرة، كانت «راند» إحدى أكبر المنظمات الموكل إليها عمليات تطوير وإصلاح العملية التعليمة في العديد من الدول العربية، مثل: دول الخليج، ومصر، وسورية، واليمن.. وغيرها، وهناك العديد من الشراكات بينها وبين الكثير من الجامعات العربية، وبالنظر لأصل النشأة والتاريخ السابق ذكره، وشبكة المصالح التي ترتبط بها «راند»، والأهم من ذلك كله النموذج التي تنبثق عنه، كل هذا يجعل التصورات والآليات التي تقدمها لعمليات تطوير وإصلاح التعليم في عالمنا العربي محل شك، وتساؤل.
فمن جهة، فإن السياسات التعليمية التي توصي بها «راند» عادة ترتبط من جهة الصلاحية بالنموذج الغربي، من حيث قيمه القائم عليها، والظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية، بل وحتى المؤسسية هناك، ومن ثم محاولة إقحام مثل هذه السياسات في مجتمعاتنا العربية دون سابق تعديل سيؤدي لمزيد من خلل التعليم لا إصلاحه.
بالإضافة إلى أن منظمات مثل «راند» حين تنظر لمشكلة التعليم في سياقنا العربي، فهي إما ستختزل المشكلة في جوانبها التقنية والتكنولوجية وفقط، فتأتي الحلول على هذا المستوى، أو أن ترى أن القيم التي تحملها البيئات العربية تكمن فيها المشكلة؛ لأنها من وجهة نظر المؤسسة قيم تقليدية ترسخ التخلف، فتوصي باستبدال قيم النموذج الغربي الأمريكي الحديث بها.
من جهة أخرى، بالإضافة لما سبق ذكره، وبالنظر لطبيعة المرحلة الحرجة التي تعيشها غالب المجتمعات العربية والمسلمة، فإن تدخلات مؤسسات مثل «راند» في المؤسسات التعليمية لا يستبعد عنه أن يوجه التعليم لصالح أجندات خارجية على مستوى المرجعية والمناهج والقيم، والأسئلة التي يوجَّه اهتمام الطالب لها، بل وحتى على مستوى تعريف العدو والصديق، ومن ثم يخرج المنتج التعليمي أشبه بالمسخ لا ينتمي إلى أي شيء.
هذه الاتهامات تعزز من فرضية خطورة مثل هذه المنظمات الدولية الموجهة بمصالح الممولين وانحيازاتها غير الأخلاقية على مجتمعاتنا العربية والمسلمة؛ وهو ما يستدعي بالضرورة مواجهته، من جهة، بنقد ما تقدمه هذه المنظمات، حيث إن التعليم أولى أن يقوم عليه أبناء كل مجتمع؛ ببساطة لأنهم أدرى بما يحتاجه مجتمعهم؛ وما يعزز هوياتهم، وما تحدياتهم المجتمعية، وما ينبغي إجابته من أسئلة، ولا يعني هذا الانغلاق على الذات بالطبع، ولكن أن يعي القائم على إصلاح العملية التعليمة ما يريد، ثم يسيح في الأرض يستفيد من تجارب الآخرين وهو محصن بمنهج في الأخذ والرد.
من جهة أخرى، نحتاج جهداً بحثياً وتنظيمياً مكافئاً، لكن هذه المكافأة تستلزم بالضرورة إيماناً على مستوى القيادة السياسية والمجتمعات بجدوى مثل هذه المنظمات البحثية الدولية ابتداءً، وأهمية دورها الذي تقوم به، إيماناً يكفل بذل الدعم المادي والتقني، والاعتراف بنموذج آخر لسياسة وإدارة المجتمعات لمصالحنا العامة، ورسم لسياساتنا الداخلية والخارجية يقوم بالضرورة على العلم والمعرفة الحقيقية.