لا شك أن جمهوراً هائلاً ممن يدينون بالإسلام ينتظرون فرجاً لهذه الأمة، والكل متشوف لسماع خبر يطمئن الأفئدة التي كادت تخلعها الحوادث، وعلى ظهر الأرض جيل رأى هوانا كبيرًا، وهو يرجو أن يزول هذا الهوان أو يعرف متى يزول.
من هنا تروج كتب التنبؤات، وتصير المنشورات الراصدة لقرب النصر في أي مجال من مجالات الحياة هي الأكثر تفاعلاً ومشاركة، ويحظى الفائز المسلم بجائزة أو تكريم دولي بإشادات لا حصر لها، فقد ألقى العدو في قلوب المسلمين مع الوهن فكرة العجز والقصور، وأكد الفكرتين حتى ترسخت في عقول بعض المسلمين؛ أنهم عاجزون في مجالات الحياة، فإذا برز منهم واحد، فرحوا به فرح الأطفال بهدية يحضرها له بعض ذويه.
حضارة تبدد الأكاذيب
إن فكرة الوهن التي ألح عليها أعداء الأمة وفكرة العجز، تبددها نظرة فاحصة لحضارة المسلمين في كل مجالات الحياة، سواء ما يختص منها بالإنسان، أو ما يختص بالعمران.
ولن نعيد الكلام الذي سبق في مقالات لنا سابقة عن حجم المؤلفات التي أنتجها المسلمون في كل المعارف، كما تظل المنشآت العسكرية والتنموية شاهداً على عبقرية الإنسان المسلم في مجال العمارة، وإحياء الموات، وتخطيط المدن، وكيف شيد المهندسون المعماريون المدن والقلاع، وكيف أوصلوا المياه بطرق عبقرية لحجاج مكة، وكيف أوصلوا ماء النيل لقلعة صلاح الدين شديدة الارتفاع.
فضلاً عن الطرق والسدود وغيرها، بل لا تزال البلاد التي خرج منها المسلمون شاهدة على رقيهم الحضاري والعمراني.
طاقات إنسانية معطلة
إن أهم طاقة معطلة يمكن أن نشير لها فيما تملكه الأمة من بين الأمم هو الرصيد الأخلاقي، الذي يستمد قوته وكماله من كتاب الله تعالى، هذا الرصيد كاف في غلق آلاف من أقسام الشرطة والمحاكم، وكاف في غلق الآلاف من دور المسنين حول العالم، وكاف في غلق ملايين من دور اللقطاء، وهو وحده القادر على الحد من التوسع في إنشاء السجون ودور الاحتجاز لأرباب الجرائم، والحد من حالات الانهيار الأسري، وتفاحش ظاهرة الطلاق.
هذا الرصيد كاف في الحد من ظاهرة الفقر والجوع، وتحقيق التنمية المستدامة حول العالم، بل هو الضمانة الأكيدة في الحد من التلوث الذي تشكو منه الدول، وإنهاء آلاف الصراعات والحروب الداخلية والخارجية حول العالم.
إننا حين ننشد فناً هادفاً، ورياضة هادفة، وصحافة هادفة، وتعليماً هادفاً، فلا طريق لذلك إلا إحياء طاقة الأخلاق المعطلة، أو التي تعطَّلت.
ويدخل في ضمنها قيمة العدل التي بها قوام الدنيا، وبها تنزل الأرزاق على الناس، وهي وإن توارت في قصور الخلفاء، إلا أنها ظلت زاهية في بيوت الناس ومجتمعاتهم، وشاهداً على رعاية الناس لله في المنشط والمكره.
طاقات تعطلت
إن الإنسان الحديث غامر أشد المغامرة في استغلال كل ما أمكنه، لكنه وجَّه ما هو خير إلى ما هو شر، يقول «Joad»، رئيس قسم الفلسفة في جامعة لندن: انظر إلى المقاصد التي استعملت لها الطائرة، إنما هي قذف القنابل وتمزيق جثث الإنسان وخنق الأحياء وإحراق الأجساد وإلقاء الغارات السامة، وتقطيع المستضعفين الذين لا عاصم لهم من هذا الشر إرباً إرباً، وهذه إما مقاصد الحمقى أو الشياطين(1)، وما لهذا كان تصنيعها.
لقد كان من أوائل ما زرعه الإسلام في نفوس المؤمنين به أخلاقيات الحرب، وقيمها اللازمة، وتلك طاقة تعطلت، حيث صار المسلمون في طرف المقتول دائماً في كل أنحاء الأرض، ففقدت البشرية النموذج الرشيد في استعمال السلاح بكل أنواعه، كما فقدت مع ذلك نموذج التعامل مع المغلوب فيما بعد الحرب، وصارت الحرب اليوم لإهلاك الحرث والنسل، بل لصناعة المتاحف من جماجم المقاومين والمغلوبين، كما هي الآن في ديار تدعي الحضارة والرقي.
طاقات اقتصادية معطلة
إن الأمة تملك طاقات ربما لا تملكها أمة أخرى على وجه الأرض، فهي الأمة التي تملك مساحات من الأراضي الزراعية الخصبة تفوق بها الأمم، فضلاً عن عدد الأنهار التي تمر بالمياه العذبة بلدانها، وممرات التجارة العالمية، فضلاً عن الطبيعة التي تسمح بإنتاج هائل من الطاقة النظيفة، وهي الأمة التي تملك بحراً مالحاً لا يشاركها فيه أحد هو البحر الأحمر، فضلاً عما تملكه من شاطئ ممتد على حدود الأبيض المتوسط، وفرصها وموقعها المتوسط دول العالم يسمح لها بالريادة في العالم.
القطاع الثالث والطاقة المعطلة
لقد احتلت الأوقاف قيمة كبرى في حضارة المسلمين، ونكاد نجزم أنها هي التي اضطلعت بالقسم الأكبر من حضارتهم، من خلال الإنفاق على العلم وطلابه ومدرسيه، ومن خلال المنشآت الكبرى للري والزراعة والاستصلاح، كما رعت الغريب وابن السبيل
لقد أصبحت الأوقاف طاقة معطلة، ولئن تشدد الفقهاء قديماً في شروط التصرف فيها، فإن ذلك عاد لأمرين: حماية الوقف من الاستيلاء عليه، وضمان استمرار عوائده، تشير بعض الإحصاءات إلى أن، على سبيل المثال، 54% من الأوقاف في السعودية هي أرض بيضاء لا تدر عائداً(2)، وهذه طاقة كبرى معطلة، وليست الحال بأفضل في بقية البقاع العربية والإسلامية.
فالتنمية لا يمكن أن يضطلع بها القطاعان؛ العام والخاص، بل لا بد من القطاع الثالث، ولا بد من الالتفات لنوازل الأوقاف، وإعادة النظر الشرعي والقانوني والإداري في استغلاله، وعدم اعتباره حجراً لا يمس بانتهاء نظَّاره أو القائمين عليه.
وكي لا يكون طاقة معطلة فلا بد من الشفافية في إدارته وإبراز الوعي بأهميته، والاهتمام الكافي بتفعيل دوره في التنمية المستدامة.
وأهم من هذا كله مواجهة التحديات القانونية والإدارية، بل والمالية والإدارية التي تقيد تطويره واستخدامه في مشاريع اجتماعية واقتصادية حديثة، حتى تعظم العوائد التي يمكن الحصول عليها منه.
ولا بد من حوكمته وفق نظم الحوكمة الحديثة، وإدارته بالشفافية والإفصاح، وربطه بالتقنيات الحديثة كالذكاء الاصطناعي في تحسين إدارته، وجعلها أكثر شفافية وكفاءة، واقتحام ملف الأوقاف المهملة، أو التي تبددت، وجعل غاية الواقف هي الأساس في إعادة هيكلته، فلقد كانت ثقافة الأمة قديماً قائمة على اهتمام كافتها بالوقف والعمل المانح، لاستدامة الأجر.
الشباب طاقة معطلة
لا حاجة لنا بأن نبين قيمة وجود الشباب في المجتمع، لكن نقفز إلى القول: إن طاقات الشباب طاقات معطلة، فهي تتربى على القيم الاستهلاكية، وتتعايش مع المباريات والفنون أكثر مما تتعايش مع قضايا الأمة، والأمة محتاجة إلى بناء شبابها من جديد، لتنفخ فيهم هواء الحياة، وهي بذلك بحاجة إلى إحياء هؤلاء على عقائدها الدينية بدراسة منظومة، وتعهد مستمر، وعودة إلى مصادر الإسلام الأولى من كتاب وسُنة، مع استبانة ما يتطلبه العصر الحاضر من لفتات خاصة به وسياقات تلائمه(3).
ولا بد من الأخذ في الحسبان أن هناك من المبادرات الفردية والمؤسسية ما هو ناجع ومهم في تحفيز الطاقات المعطلة، وأن الأمة بحاجة حقيقية لمن لا يستصغر وضع اللبنة الأولى في كل بناء، أو يقعد عن سلوك روح المبادرة، في استنهاض الطاقات المعطلة.
_______________________
(1) نقلاً: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، ص 194.
(2) https://www.argaam.com/ar/article/articledetail/id/949610.
(3) الإسلام والطاقات المعطلة، ص 69.