يسيطر الخوف من الرجوع إلى العصور الوسطى في أوروبا على الناس حين يسمعون من ينادي بدخول الدين في شؤون الحياة، سواء في مجال السياسة أم الاقتصاد أم الاجتماع أم غيرها، ذلك أن التطبيق الكنسي للسلطة الدينية في العصور المظلمة قد أرهب الناس وأخافهم من كل ما يحمل الصبغة الدينية.
والمشكلة أن الناس عمموا هذا الحكم على كل ما هو ديني، سواء كان هذا فهماً خاطئاً أو تطبيقاً سليماً، المهم في نظرهم أنه ديني، وهو يمثل الرجوع إلى الخلف والتخلي عن الحضارة الإنسانية.
والحقيقة أن تطبيق القساوسة للدين في العصور الوسطى كان خاطئاً، وقد تدخلت فيه الأهواء وتحكمت فيه الرغبات، حتى انحرف الناس عن الدين السليم وانساقوا وراء شهواتهم، بين من يلبي رغباته باسم الدين، أو يحرّم الطيبات على نفسه باسم الدين أيضاً، وكلاهما مخطئ.
إن التطبيق الإسلامي للسياسة الشرعية لا يخضع لأهواء القادة أو رغبات الناس، بل يرتكز على المصلحة الإنسانية والمجتمعية، فحيثما وجدت المصلحة فثم شرع الله،
ونعني بالمصلحة هنا: المحافظة على مقصود الشرع الشريف، بدفع المفاسد عن الخلق(1)، وفي هذا قال ابن القيم: إن الله سبحانه أرسل رسله، وأنزل كتبه، ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي قامت به الأرض والسماوات، فإذا ظهرت أمارات العدل وأسفر وجهه بأي طريق كان، فثم شرع الله ودينه، والله سبحانه أعلم وأحكم، وأعدل أن يخص طرق العدل وأماراته وأعلامه بشيء، ثم ينفي ما هو أظهر منها وأقوى دلالة، وأبين أمارة، فلا يجعله منها، ولا يحكم عند وجودها وقيامها بموجبها، بل قد بين سبحانه بما شرعه من الطرق، أن مقصوده إقامة العدل بين عباده، وقيام الناس بالقسط، فأي طريق استخرج بها العدل والقسط فهي من الدين، وليست مخالفة له(2).
أخطار تغييب السياسة الشرعية
1- التشكيك في قدرة الشريعة الإسلامية على قيادة الدولة الحديثة:
زعم البعض أن الإسلام غير قادر على مسايرة التطور ومواكبة الأحداث، بسبب جمود بعض الناس حول أحكام معينة أو وقوفهم عند مرحلة تاريخية لا يتجاوزونها، بل يحرصون على محاكمة الواقع إلى ما يقفون عنده من أحكام أو زمان؛ وهذا ما يسوغ للبعض اتهام الإسلام بعدم القدرة على قيادة الدولة الحديثة.
وإن الفهم الصحيح للإسلام يحمي الأمة من هذه النظرة الجامدة، حيث يدعو الإسلام أتباعه إلى التوازن بين الثوابت والمتغيرات، فلا يميل المسلم أو ينحرف عن أصول دينه وأخلاقه، وفي الوقت نفسه، فإنه يتعاطى مع مستجدات الواقع، ويبحث لها عن مخارج من القواعد الشرعية التي تضبط المسار وتحمي من الانحراف.
وإن من وظائف العلماء أن يزنوا أمور الحياة بميزان المصالح والمفاسد، فما كان منها صالحاً للناس بحثوا عن المخارج الشرعية له، حتى لا يفوت الخير الحاصل منه، وما كان فاسداً فإن العلماء يحذرون الناس منه، وهذا هو ما حث عليه الإسلام في الدعوة إلى التجديد.
2- الاستجابة للعلمانية:
بعد أن استبدت السلطة الكنسية بالأمور في أوروبا، وتسببت في التخلف الحضاري والجمود الفكري، ثار الناس ضدها، واعتبروا أن كل داع إلى الدين رجعي ومتخلف، وقرروا أن الحضارة تستلزم الانفصال عن الدين، وأن الدين يجب أن ينعزل عن الحياة، ويبقى في ضمائر الأفراد أو أماكن العبادة فقط، وهذه هي العلمانية التي ينادي بها الفكر الغربي، وهي تعني استبعاد الأنظمة الدينية من إدارة شؤون الحياة.
وإن ما يظنه البعض من أن التمسك بالسياسة الشرعية يعني الانفصال عن الواقع ومعاداة كل ما هو إنساني في مقابل ما هو شرعي، غير صحيح؛ لأن الإسلام لا يدعو إلى الانغلاق عن الناس أو معاداتهم، بل يدعونا إلى اقتباس كل ما هو نافع ومفيد، ويصرح بأن الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها أخذها، فهو أحق الناس بها، ولهذا الأمر تطبيقات متعددة في التاريخ الإسلامي، ومن ذلك ما وجدناه في السيرة النبوية الشريفة من الانتفاع بالتجربة الفارسية في حفر الخندق، وذلك في غزوة «الأحزاب»، وما فعله الصحابة الكرام من تدوين الدواوين وغيرها من الأفكار التي انتفع بها المسلمون عبر التاريخ.
3- فقدان الثقة في التاريخ والحضارة الإسلامية:
حين نعيد النظر في قراءة التاريخ الإسلامي ونقف على المنجزات الحضارية التي استطاعت أن تقود العالم الإسلامي إلى حضارته المشهودة، نجد أن المسلمين قد أسهموا في تأسيس العلوم النظرية والتطبيقية، فعلم الاجتماع منسوب إلى ابن خلدون، وعلم الرياضيات منسوب إلى الخوارزمي، وعلم الكيمياء منسوب إلى جابر بن حيان، وعلم البصريات منسوب إلى الحسن بن الهيثم، وعلم الطب منسوب إلى ابن سينا، وغيرها من العلوم التي أبدع فيها علماء الإسلام إبداعات غير مسبوقة، فإذا زعم البعض أن السياسة الإسلامية غير قادرة على قيادة الإنسانية في العصور الحديثة؛ فإن هذا يجعل البعض يفقد الثقة في كل ما ذكرناه عن العلماء ومنجزاتهم الحضارية عبر العصور، والحقيقة أننا في العصر الحاضر في حاجة ماسة إلى اقتفاء آثار هؤلاء العلماء والانتفاع بما قدمته الحضارة الإسلامية للإنسانية عبر العصور.
4- التفريط في الهوية الإسلامية:
يعد التفريط في السياسة الشرعية بمثابة التخلي عن المصدرية الإسلامية في التشريع وإدارة شؤون الحياة، وهذا يؤدي إلى فقدان الهوية الإسلامية، وترتكز المصدرية الإسلامية للسياسة الشرعية على ما جاء من توجيهات قرآنية ونبوية لإقرار قيم الإسلام وتطبيقها، حيث قال الله عز وجل: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ) (المائدة: 49).
وإن الآيات القرآنية التي تخاطب الأمة بالحكم بما أنزل الله ليست موجهة إلى الحكام وحدهم، بل يستوي في الالتزام بها الحاكم والمحكوم، فإذا أخطأ الحاكم فلا ينبغي للمحكوم أن يخطئ، بل يحترس لنفسه ودينه، ويدل على ذلك ما ورد في السُّنة النبوية الشريفة، ففي الصحيحين عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا بِقَوْلِهِ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ، فَلَا يَأْخُذْهَا»، وهذا هو المظهر الراقي للهوية الإسلامية.
____________________
(1) إرشاد الفحول: الشوكاني، ص 403.
(2) الطرق الحكمية: ابن القيم، ص 13، 14.