في جمادى الأولى 8هـ، خرج أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا 3 آلاف مقاتل لملاقاة الروم وكانوا 200 ألف مقاتل في غزوة «مؤتة»، وقد خطط النبي صلى الله عليه وسلم لهذه الغزوة لكنه لم يخرج فيها، وقال لأصحابه: «أميركم زَيْد بْنَ حَارِثَةَ، فإنْ أُصِيبَ زَيْدٌ فَجَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فَإِنْ أُصِيبَ جَعْفَرٌ فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ»، فقُتل زيد، ثم جعفر، فَلَمَّا قُتِلَ جَعْفَرٌ أَخَذَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ الرَّايَةَ، ثُمَّ تَقَدَّمَ بِهَا، وَهُوَ عَلَى فَرَسِهِ، فَجَعَلَ يَسْتَنْزِلُ نَفْسَهُ، وَيَتَرَدَّدُ بَعْضَ التَّرَدُّدِ، ثُمَّ قَالَ:
أَقْسَمْتُ يَا نَفْسُ لَتَنْزِلِنَّهْ لَتَنْزِلِنَّ أَوْ لَتُكْرَهِنَّهْ
إنْ أَجْلَبَ النَّاسُ وَشَدُّوا الرّنّه مَا لي أَرَاكِ تَكْرَهِينَ الْجَنَّة
قَدْ طَالَ مَا قَدْ كُنْتِ مُطْمَئِنَّهْ هَلْ أَنْتِ إلَّا نُطْفَةٌ فِي شَنَّهْ
وَقَالَ أَيْضًا:
يَا نَفْسُ إلَّا تُقْتَلِي تَمُوتِي هَذَا حِمَامُ الْمَوْتِ قَدْ صَلِيَتْ
وَمَا تَمَنَّيْتِ فَقَدْ أُعْطِيتُ إنْ تَفْعَلِي فِعْلَهُمَا هُدِيتُ(1)
إن النفس بطبيعتها تؤثر السلامة وتميل إلى الكسل، وترغب في فعل الشهوات وتأمر بالسوء، فقد قال تعالى: (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) (يوسف: 53)، فإذا اتبعها الإنسان فإنه يقع في الشهوات ولا يتذكر الطاعات؛ لذا حث الإسلام على مجاهدة النفس ووعد من يجاهدها بالخير والفضل في الدنيا والآخرة، وفيما يأتي بيان أهم ثمرات مجاهدة النفس.
أولاً: الهداية واستقامة النفس:
لقد وعد الله تعالى من يجاهد نفسه في سبيل الله بالهداية والإعانة على الاستقامة، حيث قال عز وجل: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت: 69)، قال القرطبي: نزلت هذه الآية قبل فرض القتال، فهو جهاد عام في دين الله وطلب مرضاته، وقال ابن عباس، وإبراهيم بن أدهم: هي في الذين يعملون بما يعلمون(2)؛ فمن جاهد نفسه في العبادة والعمل بما يعلم فإن الله تعالى يهديه سواء السبيل، ويعينه على الاستقامة على الصراط المستقيم، وفي هذا قال الإمام محمد بن المنكدر: كابدت نفسي أربعين سنة حتى استقامت(3)، والنفس تقبل التقويم والتعديل، لكنها تحتاج إلى جهاد، ولهذا قال البوصيري:
والنفس كالطفل إن تخمله شب على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم.
ثانياً: كتابة الأجر والثواب:
روى مسلم في صحيحه عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ قَالَ: خَلَتِ الْبِقَاعُ حَوْلَ الْمَسْجِدِ، فَأَرَادَ بَنُو سَلِمَةَ أَنْ يَنْتَقِلُوا إِلَى قُرْبِ الْمَسْجِدِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُمْ: «إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَنْتَقِلُوا قُرْبَ الْمَسْجِدِ»، قَالُوا: نَعَمْ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ أَرَدْنَا ذَلِكَ، فَقَالَ: «يَا بَنِي سَلِمَةَ، دِيَارَكُمْ، تُكْتَبْ آثاركم، دياركم، تكتب آثاركم»، إنهم كانوا حريصين على الاقتراب من المسجد؛ لأنهم يجاهدون أنفسهم كثيراً في حضور الصلوات مع النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم ألا ينتقلوا قرب المسجد، بل يواصلوا جهادهم، والله يكتب أجرهم، ولهذا كان معنى الحديث: الزموا دياركم، فإنكم إذا لزمتموها كتبت آثاركم وخطاكم الكثيرة إلى المسجد.
ثالثاً: الفوز بمقام العقلاء:
روى الإمام أحمد في مسنده عَنْ شدَّادِ بنِ أوْسٍ، عنِ النَّبي صلَّى اللهُ عليه وسلمَّ قال: «الكيِّسُ مَنْ دَانَ نفْسَه، وعَمِلَ لما بعدَ الموْتِ، والعاجزُ مَنْ أتْبعَ نَفْسَه هواها، وتمنَّي علَى اللهِ»؛ أي جاهد نفسه وحاسبها، واهتم بالعمل لما بعد الموت، فهذا هو العاقل، أما العاجز فهو من سار وراء نفسه واتبع هواه، فهذا هو الواقع في الضلال المبين، وفيه قال الله عز وجل: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) (الجاثية: 23).
رابعاً: الانتصار في كافة ميادين الحياة:
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «ميدانكم الأول أنفسكم، فإن انتصرتم عليها كنتم على غيرها أقدر، وإن خُذلتم فيها كنتم على غيرها أعجز»(4)، فمن انتصر على شهوات نفسه ومطامعها، فإنه ينتصر على ما سوى ذلك، إذ النفس غالباً ما تغلب صاحبها إلا إذا كان قوياً واستطاع أن ينتصر عليها، وهنا يتحكم فيها ويقودها إلى ما يحبه الله ويرضاه.
خامساً: تحقيق الفلاح:
إن الله تعالى أوضح في القرآن الكريم أن النفس فيها خير وشر، وأنها تميل إلى الشر أولاً، فمن جاهدها وزكاها فهو من المفلحين، ومن سار وراء شهواتها فهو من الخاسرين، وفي هذا يقول الله تعالى: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا {7} فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا {8} قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا {9} وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا) (الشمس).
سادساً: تحقيق الإيمان:
روى ابن أبي عاصم عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ»، فالإيمان الكامل لا يتحقق إلا لمن جاهد نفسه وجعل هواها تابعا لما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم.
سابعاً: دخول الجنة:
قال الله تعالى: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى {40} فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) (النازعات)، من جاهد نفسه ونهاها عن الهوى فإنه يدخل الجنة، وفي الحديث الشريف الذي رواه مسلم في صحيحه عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات».
_____________________
(1) السيرة النبوية: ابن هشام (2/ 373).
(2) تفسير القرطبي (13/ 364).
(3) صفة الصفوة: ابن الجوزي (1/ 378).
(4) نهج البلاغة: الشريف الرضي، ص 423.