قضى الله تعالى ألا يقبل عملاً إلا إذا كان خالصاً له سبحانه وتعالى؛ لذا يُعد اختلاط الأعمال بالرياء، والركض خلف السُّمْعَة، من أخطر العوائق التي تعيق السير في الطريق إلى الله تعالى.
وهذا العائق يُقصد به: أن المرء يحرص على إطلاع الناس على ما يقوم به من أعمال صالحة طلباً للمنزلة والمكانة عندهم، أو طمعًا في دنياهم، فإن وقعت هذه الأعمال أمامهم ورأوها فذلك هو الرياء، وإن لم تقع أمامهم لكنه حدثهم بها فتلك هي السمعة، وفرَّق العلامة عز الدين بن عبدالسلام بين الرياء والسمعة قائلًا: الرياء: أن يعمل لغير الله، والسمعة أن يخفي عمله لله ثم يحدث به الناس(1).
ومن هذا المنطلق نستطيع أن نقول: إن الرياء كله مذموم، أما السمعة فقد تكون مذمومة إذا قصد من يتحدث عن عمله وجه الناس، ومحمودة إذا قصد بذلك وجه الله وابتغاء مرضاته، ولتشجيع الناس على فعل الخيرات وترك المنكرات، وعلى ذلك فالرياء لا يدخل في العبادات القلبية كالخوف والرجاء بخلاف التسميع؛ لأن العبد قد يحدّث عما يكنه قلبه يريد بذلك ثناء الناس، فأعمال القلوب مصونة من الرياء، إذ لا رياء إلا بأفعال ظاهرة تُرى أو تُسمع، والتسميع عام لأعمال القلوب والجوارح(2).
وهذا ما أكده القرآن والسُنَّة، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) (البقرة: 264)، وقال تعالى: (الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ {5} الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ) (الماعون)، وقال صلى الله عليه وسلم: «مَن يُسَمِّعْ يُسَمِّعِ اللَّهُ به، ومَن يُرائِي يُرائِي اللَّهُ بهِ» (رواه مسلم)، وقال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سمَّعَ الناسَ بعملِهِ سمَّعَ اللهُ بهِ سامِعَ خلقِهِ وصغرَهُ وحقرَهُ» (رواه أحمد).
العاقبة
ولهذا العائق عاقبة خطيرة على مستوى الفرد والعمل الإسلامي، فعلى مستوى الفرد يُحرم من الهداية والتوفيق، وذلك أن الله تعالى وحده هو الذي يملك الهداية والتوفيق، وقد مضت سُنته تعالى وجرى قضاؤه أنه لا يمنحهما إلا لمن كان عمله خالصاً لله تعالى، كذلك يصاب المرء بالضيق والاضطراب النفسي؛ وذلك لأنه يفعل ما يفعل طلباً لمرضاة الناس وطمعًا فيما بين أيديهم، وقد يحول الله تعالى دون ذلك، فيعتريه الضيق والاضطراب النفسي حزناً على فوات حظه من الدنيا.
ومن أخطر العواقب لهذا العائق عدم إتقان العمل، وذلك لأن المرائي يراقب الناس في أعماله، والناس مهما كانت طاقاتهم وإمكاناتهم، عاجزون عن المتابعة في كل وقت، فينتهي عجزهم هذا إلى عدم إتقانه للعمل، الأمر الذي يفقده ثقة الناس ويكون بذلك قد ضيَّع نفسه من حيث أراد مصلحتها أو منفعتها، وكذلك من العواقب بطلان العمل، وذلك أن سُنَّة الله تعالى قد مضت في خلقه ألا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً له، وابتُغى به وجهه، قال تعالى: (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) (الكهف: 110).
هذا على مستوى الفرد، أما على مستوى العمل الإسلامي، فإن اختلاط الأعمال بالرياء والتسمع يتسبب في تأخره وضياع حقوق العاملين، وكثرة الابتلاءات، قال تعالى: (مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) (آل عمران: 179)، وقال تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِن دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً ۚ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (التوبة: 16).
الأسباب
لاختلاط الأعمال بالرياء والركض خلف السُمْعَة أسباب كثيرة، نذكر منها:
– النشأة والبيئة: فقد ينشأ الفرد في بيئة قد اتخذت الرياء أو السمعة شعاراً لها، فما يكون منه إلا التقليد والمحاكاة وبمرور الزمن يتأصل هذا الداء من نفسه ويصاحبه طول حياته.
– الصحبة السيئة: وقد تحتويه صحبة سيئة لا هم لها إلا الرياء أو السمعة فيقلدهم ويحاكيهم، وبمرور الأيام يتمكن هذا الداء من نفسه.
– الرغبة في الصدارة وحب المناصب: وهي تدفع المرء إلى الترائي حتى يثق به من بيده هذا الأمر فيجعله في الصدارة ويوله المنصب.
– الطمع وحب التملك: وهما يدفعان المرء إلى الترائي؛ ليثق به الناس ويعطونه ما يملأ جيبه ويشبع بطنه.
– الجهل بالله تعالى: يجعل الفرد ينطلق في الدنيا دون ضوابط شرعية تضبط تصرفاته وأعماله، مما يوقعه في هذا الداء ومصاحبته.
كيف يعرف الفرد بأنه مصاب بهذا الداء؟
إذا وجد الفرد مظهراً من المظاهر التالية في حياته فليعرف أنه قد أصيب بهذا الداء:
– النشاط في العمل ومضاعفة الجهد إذا كان هناك ثناء أو مدح، والكسل والتقصير إذا كان هناك عيب أو ذم.
– النشاط في العمل ومضاعفة الجهد إذا كان مع الناس والكسل والتقصير حال التفرد أو البعد عن الناس.
– الحفاظ على محارم الله ورعايتها إذا كان مع الناس وانتهاكها والتطاول عليها إذا كان وحده أو بعيداً عن الناس(3).
العلاج
1- تذكر العواقب، فإن ذلك له أثر كبير في تحريك القلوب، والسير في الطريق إلى الله تعالى بعيداً عن هذا العائق.
2- الابتعاد عن صحبة كل من عُرف عنه أنه مصاب بهذا الداء، والحرص على مصاحبة المخلصين الصادقين، فإن ذلك يعينه على السير في الطريق إلى الله تعالى دون عوائق.
3- الإيمان بأن الله تعالى مطلع على أسرار النفوس، فضلاً عن ظاهر الأعمال، قال تعالى: (قُلْ إِن تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ۗ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (آل عمران: 29)، وقال تعالى: (لِّلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ ۖ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (البقرة: 284).
4- مجاهدة النفس، حتى تلتزم منهج الله تعالى، وتبتعد عن التطلع إلى ما في أيدي الناس والطمع في زخارف الدنيا.
5- الإيمان بأن الأمر كله بيد الله تعالى، قال عز وجل: (مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) (الحديد: 22)، وأن الخلق مهما كانت قوتهم، فلا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً فضلاً عن أن يملكون ذلك لغيرهم، قال تعالى: (قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ ۚ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ ۖ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ) (الزمر: 38).
________________
(1) مقاصد المكلفين فيما يتعبد به لرب العالمين، د. عمر سليمان الأشقر (1/ 437).
(2) قواعد الأحكام في مصالح الأنام، العز بن عبدالسلام (1/ 148).
(3) آفات على الطريق، د. السيد محمد نوح (1/ 177)، بتصرف.