بعيدًا عن التحليلات السياسية والدراسات الاجتماعية والتفكير الإستراتيجي، بعيدًا عن سرديات النصر والهزيمة، والأخطاء والإنجازات، نقف على أعتاب القرآن الكريم نسأله سؤال الواثق في البيان، المتيقن من الإجابة القاطعة والمنهجية الناجعة، نقف على أعتاب القرآن نسأله سؤال من انقطعت به السبل، وطاشت منه السهام، وضاعت منه القوى، إلى أين نتجه؟! وماذا ننتظر؟!
فيخبرنا القرآن بأننا لسنا بدعًا من الأمر، فكم من أمة كانت على حالنا، وكم من أقوام مرت عليهم تلك السنن، فكانت النتيجة هي النتيجة، والعاقبة هي العاقبة، قال تعالى: (فهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ ۚ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا) (فاطر: 43).
وقد نظرت في منهجيات القرآن وقوانينه، فوجدت أن الأمة، بل العالم كله يتأهب لطوفان من ثلاثة:
أوَّلًا: طُوفَانٌ رَبَّانِيٌّ:
وهو تدخل الله تعالى بالعقوبة لأهل الأرض جزاء لظلمهم الذي بلغ الآفاق، وبغيه، وجحودهم الذي طال الفطرة فأفسدها، والإنسانية فشوّهها، والقيم فأبدلها من الذي تضجرت منه كل المخلوقات، وكفرهم الذي وصل إلى غاية العناد والصد والاستكبار؛ طوفان ربّاني يقتلع جذورهم ويدمر باطلهم ويعيدهم إلى الفقر والموت والذل والتيه، وما ذلك إلا وعد توعّد الله به البشرية، وفي قلبها الأمة المكلّفة بحمل الرسالة، فقال تعالى: (وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (الأنفال: 25)، وَقَالَ تَعَالَى: (ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) (الروم: 41)، وَقَالَ تَعَالَى: (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ {97} أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ) (الأعراف).
وهذه العقوبة جزاء للنُكوص عن أداء الأمانة، وَالانشِغَالِ عَن تَبلِيغِ الرِّسَالَةِ، وفي الحديث، قال صلى الله عليه وسلم: «مرُوا بالمعروفِ، وانهوا عن المُنكَرِ، قبلَ أن تَدْعُوا فلا يُستَجابَ لكُم، وتَسأَلوا فلا تُعطَوا، وتَستنصِروا فلا تُنصَروا» (أخرجه البيهقي، والطبراني، والبزار).
من هنا قيل: من أذنب ذنبًا تكون جميع الخلائق من الإنس والدواب والوحوش والطيور والذر خصماءه يوم القيامة؛ لأنه تعالى يمنع المطر بشؤم المعصية، فيتضرر بذلك أهل البر والبحر جميعًا.
وأنت ترى كيف تُحدث الآفات والعلل كل وقت في الثمار والزرع والحيوان، وكيف يُحدث من تلك الآفات آفات أُخر متلازمة، بعضها آخذ برقاب بعض، وكلما أحدث الناس ظلمًا وفجورًا؛ أحدث لهم ربهم تبارك وتعالى من الآفات والعلل في أغذيتهم وفواكههم، وأهويتهم ومياههم، وأبدانهم وخلقهم، وصورهم وأخلاقهم من النقص والآفات ما هو موجب أعمالهم وظلمهم وفجورهم.
وهذا والله منذر بسيل عذاب قد انعقد غمامه، ومؤذن بليل بلاء قد ادلهمَّ ظلامه، فاعزلوا عن طريق هذا السبيل بتوبة نصوح ما دامت التوبة ممكنة وبابها مفتوحاً، وهذا الطوفان لا يستطيع أحد دفعه، ولا يتصور أحد حجمه ولا موعده، وما يعلم جنود ربك إلا هو.
ثانيًا: الطُّوفَانُ الشَّيطَانِي:
وهو أن يُمكِّن الله تعالى لآلة الطغيان العالمية بقيادة ترمب، ونتنياهو، وشياطين الإنس الخبيثة لتدمير الأمة الإسلامية واستلاب أموالها، والتسلط على مؤسساتها، ويمكّن للذين يتطلعون إلى القضاء على كل ما هو ثوابت ودين وقيم، بل ويُعلِنون عن مخططاتهم ورموزها ومناهجها ومقدراتها!
والقرآن الكريم يحذرنا من غلبة الكفر وسيطرته، ويوضح لنا خطورة استحواذ الكافرين على مقاليد الأمور؛ لأن ذلك قد يؤدي إلى فساد العقيدة، وفساد الأخلاق، وذهاب العدل، وانتشار الظلم، فغلبة الكفر تعني سيطرة من لا يخافون الله ولا يتبعون منهجه على الحياة والمجتمع؛ ما يؤدي إلى ضياع حقوق الضعفاء وانتشار الظلم والفساد، قال تعالى عنهم: (كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً) (التوبة: 8)، وقال تعالى: (وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا) (البقرة: 217).
ثالثًا: الطُّوفَانُ الإِيمَانِيّ:
من سنن الله تعالى أن الأمة إذا بذلت ما لديها من جهد، فتح الله تعالى أبواب النصر من عنده، قال تعالى: (حَتَّىٰ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) (يوسف: 110).
فالله يأتي بالنصر في أوقات لا يتوقعها عقل، ولا يستشرفها علم، فالنصر ليس إلا من الله تعالى؛ (وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ) (الأنفال: 10)، والأمة تترقب وعدًا من ربها بالتمكين والرفعة على مدار العصور والأزمنة، قال تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ) (النور: 55)؛ والمعنى أن زمان الإمهال قد تطاول عليهم حتى توهموا أن لا نصر لهم في الدنيا فجاءهم نصرنا بغتة بغير سبق علامة.
وإن من سنن الله تعالى أن الظلم إذا زاد عن حده يتدخل الله لإزالته، قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ {6} إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ {7} الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ {8} وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ {9} وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ {10} الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ {11} فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ {12} فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ {13} إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) (الفجر).
الاستعداد لِلطُّوفَانِ
العجيب أن منهجية الاستعداد لأي طوفان من الثلاثة واحدة كما هي، لم تتغير، وهي أن يحب على كل مسلم أن يصدق في الانحياز الكامل لخندق الإسلام؛ عقيدة وعبادة وسلوكًا، وذلك بأمرين:
الأَوَّل: أن يعيش بالإسلام:
بمعنى أن يستدعي أحكام الإسلام في كل أمر من أموره صغيرًا أو كبيرًا، فلا يقضي أمرًا ولا يُبرم عملًا ولا يتحرك حركة ولا يسكن سكنة إلا بعد أن يعرف حكم الإسلام فيها فينصاع لأمره ويجتنب نهيه، قال تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) (الأحزاب: 36)، وقال تعالى: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) (النساء: 65).
الثاني: أن يعيش للإسلام:
حيث يُرتب المسلم حياته فيجعلها وقفًا لدين الله تعالى، فتكون أنفاسه وخطواته وحركاته وأيامه ولياليه في خدمة دينه وحمل رسالته، فيدور مع الإسلام حيث دار، وليحذر التماهي مع الباطل أو الممالأة معه، قال تعالى: (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) (القلم: 9)، وقال تعالى: (وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ) (هود: 113).
وذلك يوجب على من يصدق في الانحياز لخندق الإسلام، فيعلنها بكل وضوح قولاً وعملاً: (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (النمل: 91)، وأن يكون هدي الإسلام واضحاً في مظاهرنا ومعاملاتنا واهتماماتنا ومناسباتنا وأفراحنا وأحزاننا، فإن ذلك من صور المدافعة التي قال عنها الله تعالى: (وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَـكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) (البقرة: 251).
وذلك يوجب علينا الإعداد بكل صوره وأشكاله، وإننا إذا اعتمدنا تلك المنهجية فنحن في الأمان، فليأتي أي طوفان بقدر الله تعالى فلا حرج، لأننا حينئذ في ميدان الحصانة، وخندق النجاة.
وأخيرًا، إن سألتني: أي طوفان تتوقع أن يأتينا؟ أجيبك سريعًا دون فكر أو روية: إنه رغم تقصيرنا، فإننا نحسن الظن بربنا سبحانه، وهو القائل في الحديث: «أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء، إن خيرًا فله، وإن شرًا فله» (رواه البخاري ومسلم)، وإنا والله نظن بربنا الخير والستر والفرج والفرح والنصر، ليس لأننا له أهل، ولكن لأنه سبحانه له أهل، والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.