القروض من الموارد أو الإيرادات العامة غير المنتظمة التي تلجأ إليها الدولة الإسلامية في الظروف غير العادية أو الاستثنائية، وتدخل ضمن موازناتها السنوية لتغطية الإنفاق العامة والحقوق المالية المتعلقة بسيادتها، وفي هذا يقول الماوردي: «لو اجتمع على بيت المال حقان وضاق كل واحد منهما جاز لولي الأمر إذا خاف الفساد أن يقترض على بيت المال ما يصرفه».
وقد روى أبو ربيعة المخزومي عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم استلف منه حين غزا حنيناً ثلاثين أو أربعين ألفاً، فلما قدم قضاها إياه، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: «بارك الله في أهلك ومالك إنما جزاء السلف الوفاء والحمد».
كما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استقرض من رجل بعيراً، فجاء يتقاضاه بعيره، فقال: «اطلبوا له بعيراً، فادفعوه إليه»، فلم يجدوا إلا سناً فوق سنه، فقالوا: يا رسول الله، لم نجد إلا سناً فوق سن بعيره، فقال: «أعطوه، فإن خياركم أحاسنكم قضاء».
والإسلام لا يعرف سوى القرض الحسن، ولا مكان فيه لسعر الفائدة المحرم تحريماً قاطعاً، ومن ثم القروض الربوية، ويكشف واقع الحال انغماس الدول في القروض الربوية وتضخم الدين العام بمبررات متعددة منها سد عجز الموازنة، أو التأثير في البنية الاقتصادية وإسراع النمو، أو للمساهمة في كبح التضخم بامتصاص جزء من السيولة في يد الأفراد من خلال القروض.
وقد عرفت القروض العامة في شكلها الحالي في أواخر القرن الثامن عشر، حيث عقدت باسم الحكومة بعد أن كانت قرضاً شخصياً للأمير أو الملك، والحكومة لا تقدم ضماناً أو رهناً لما تقترض، وإنما لضمان موارد الحكومة كلها، ثم أخذت القروض شكل أذون وسندات الخزانة.
والقروض العامة الربوية في حقيقتها وباء اقتصادي، فهي تستحوذ على جزء ليس هيناً من التمويل المتاح للقطاع الخاص، ومن ثم إعاقة دوره الاستثماري، بل وإزاحة دوره الفعال في الاقتصاد، كما أن منافسة الحكومة للقطاع الخاص في الحصول على القروض يرفع من سعر الفائدة، وهو ما يعوق عملية التنمية، كما أن القروض تحمّل الأجيال الحالية والقادمة بنفقات خدمة الدين؛ وهو ما يمثل في حقيقته ضريبة مؤجلة تتحملها تلك الأجيال، كما يؤدي الاقتراض العام إلى التضخم لما يترتب عليها من تدهور الإنتاج وزيادة النفقات العامة غير المنتجة، ومن ثم اتجاه الحكومة لتسديد التزاماتها من خلال الإصدار النقدي أو أذون الخزانة، وهو ما يسهم في سوء توزيع الدخل القومي.
كما يعد الاقتراض -وإن أدى إلى سد عجز الموازنة- تشجيعاً للحكومات العابثة والفاسدة خاصة عند ترقيعها الديون، كما يضرب الإسهاب في الدين العام الخارجي سيادة الدولة في مقتل.
لذا، لم يأت تحذير الإسلام من الدين من فراغ، وإن كان هذا التحذير ورد في حق دين الأشخاص، فإنه يمتد كذلك إلى الدولة، فعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو في الصلاة: «اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا وفتنة الممات، اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم»، فقال له قائل: ما أكثر ما تستعيذ من المغرم؟ فقال: «إن الرجل إذا غرم، حدث فكذب، ووعد فأخلف».
وعن محمد بن جحش قال: كنا جلوساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرفع رأسه إلى السماء، ثم وضع راحته على جبهته، ثم قال: «سبحان الله، ماذا نزل من التشديد؟»، فسكتنا وفزعنا، فلما كان من الغد، سألته: يا رسول الله، ما هذا التشديد الذي نزل؟ فقال: «والذي نفسي بيده، لو أن رجلاً قتل في سبيل الله ثم أحيي، ثم قتل ثم أحيي، ثم قتل وعليه دين، ما دخل الجنة حتى يُقضَى عنه دينه».
وعن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من مات وهو بريء من ثلاث: الكبر، والغلول، والدَّيْن؛ دخل الجنة»، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نفس المؤمن معلقة بدَيْنه حتى يُقضَى عنه».
إن الدَّيْن أمر ليس هيناً، ولا ينبغي اللجوء إليه إلا لضرورة، فكيف بالانغماس في ديون تفقد الدولة الاستطاعة على سدادها، وتستسلم لترقيعها، بل وشروط دائنيها الربوية، وتفقد سيادتها وهيبتها؟!
إن الإسلام لا يمنع من صحة إقراض ولي الأمر من الرعية، ولا يمنع من الزيادة غير المشروطة للقرض عند القضاء، وهو في ذلك لا يترك القروض دون ضوابط، فلا بد أن يكون القرض حسناً خالياً من الربا، وأن تكون للدولة القدرة على سداده، وألا تعتمد في سداده على الإصدار النقدي الذي يأكل قيمة النقود بالباطل، وأن تراعي ترتيب إيراداتها، فلا تلجأ للقرض إلا إذا خلا بيت المال وفتحت باب التبرعات.
وقد حرص علماء المسلمين على مر العصور على التحليل الشرعي والاقتصادي لقضية اقتراض الدولة، ويحلل إمام الحرمين ذلك تحليلاً عميقاً في كتابه «الغياثي» فيقول: من الناس من ذهب إلى أن الإمام يأخذ ما يأخذه في معرض الاقتراض على بيت المال على كل حال، فإن ثابت مداره ومحالبه تعين رد ما اقترض، والمقرض يطالبه، وقال قائلون: إن عمم بالاستيلاء مياسير البلاد، والمثرين من طبقات العباد، فلا مطمع في الرد والاسترداد، وإن خصص بعضاً لم يكن ذلك إلا قرضاً، ونحن نذكر ما يتعلق به كل فريق، ثم نذكر مسلك التحقيق.
فمن قال: الإمام يستقرض، استمسك بأن أقدار الواجبات مضبوطة الجهات في قواعد الدين، ومذاهب المسلمين، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ضاق المحاويج والفقراء، استسلف من الأغنياء، وربما استعجل الزكوات، فلو كان يسوغ الأخذ من غير اقتراض، لكان عليه السلام بيّنه ليقتدى به من بعده عند فرض الإضافة، وربما تعلق هؤلاء بأن مأخذ الأموال لو تعدت الطرق المضبوطة، والمسالك الموضحة في الشريعة، لانبسطت الأيدي إلى الأموال، ويجر ذلك فنوناً من الخبال، ولم يثق ذو مال بماله لا في حاله، ولا في مآله، وهذا خروج عن ضبط الدين، وحل لعصام الإسلام عن أموال المسلمين.
والمرضي عندي أن ذلك جبن وخور، وذهول عن سنن النظر، فإن للإمام أن يأخذ من الجهات التي ذكرناها ما يراه ساداً للحاجة على ما قدمنا منهاجه، ولا يلزمه الاستقراض سواء فرض أخذه من معينين، أو من المياسير أجمعين، والدليل عليه أنا لو فرضنا خلو الزمان عن مطاع، لوجب على المكلفين القيام بفرائض الكفايات، من غير أن يرتقبوا مرجعاً، فإذا وليهم إمام فكأنهم ولوه أن يدبرهم تعييناً وتبييناً، فيما كان فرضاً بينهم فوضى، ولولاه لأوشك أن يتخاذلوا، ويحيل البعض الأمر فيه على البعض، ثم تنسحب المآثم على كافتهم، والإمام القوام يدفع التخاذل والتغالب، ويحمل الأعيان على التناوب فيما على الكافة الخروج عن عهدته.
وفي الجزء الثاني من هذا المقال سوف نستكمل رأي الإمام الجويني في رده على تلك الآراء فضلاً عن رؤية غيره من علماء الإسلام نحو اتجاه الدولة للاقتراض.