خلق كريم لا يتحلى به إلا من كان كريم القلب، عزيز النفس، مطمئن الوجدان، قوي الإيمان، راض عن ربه، مطمئن لرزقه سبحانه.
خلق عظيم من الأخلاق الإسلامية السامية، تحلى به الأنبياء وأهل الصلاح منذ خلق آدم عليه السلام، وفي عالم تكالب على الدنيا وملأ قلبه بها حتى فرغت عينه فلم يعد يقنع بشيء منها، وغاب الرضا، وتفشى الجشع في المجتمع المسلم من مشرقه لمغربه، فما أحوج الأمة اليوم لاستعادة مفاهيم القناعة والرضا لاستعادة مشاعر الأمان والاطمئنان والأمن بين الإنسان ونفسه، وبين الإنسان وأخيه، وبين المسلم وربه!
وليست القناعة أن ترضى بالبخس والظلم فتتنازل عن حقوقك، وإنما القناعة أن ترضى بما قسمه الله لك بعد بذل الجهد وبعد ضمان تحقيق العدالة المجتمعية في بلاد المسلمين، فالقناعة هي الرضا بما أعطى الله(1)، وهي كما قال ابن مسكويه: التساهل في المآكل والمشارب والزينة(2).
القناعة دين
القناعة ليست مجرد خُلُق اختياري يتحلى به البعض حسب رغبته ويرفضه البعض الآخر تحت ضغط ما، إنما هو دين يجب أن يتحلى به الجميع ويملأ به قلبه، قال تعالى: (إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (النور: 32)، وقال سُبحانَه: (وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ) (الحج: 36)، قال مجاهد: القانع: جارك الذي يقنع بما أعطيته(3)، وقال أبو إسحاق الثعلبي: القانع من القناعة، وهي الرضا والتعفف وترك السؤال(4).
وقد وجه النبي صلى الله عليه وسلم الأمة للتحلي بالقناعة، فعن عبدالله بن عمرو، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قد أفلح من أسلم، ورزق كفافاً، وقنعه الله بما آتاه» (رواه مسلم)، وعن فضالة بن عبيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «طوبى لمن هدي إلى الإسلام، وكان عيشه كفافاً وقنع به» (أخرجه الترمذي).
وعن عبدالله بن عمر قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي، فقال: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل» (رواه البخاري)؛ قال ابن حبان: فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم ابن عمر في هذا الخبر أن يكون في الدنيا كأنه غريب أو عابر سبيل، فكأنه أمره بالقناعة باليسير من الدنيا، إذ الغريب وعابر السبيل لا يقصدان في الغيبة الإكثار من الثروة، بل القناعة إليهما أقرب من الإكثار من الدنيا(5).
صورها في حياتنا المعاصرة
1- القناعة بالأهل والوسط الاجتماعي: فمعظم الشباب اليوم يخرجون ناقمين على أبويهم وأوساطهم الاجتماعية ومستوى أهاليهم المادي، حانقين على الجميع، بل ويكذبون أحياناً حين يتحدثون بين زملائهم عن تلك المستويات.
2- القناعة بالشكل والصورة التي خلقه الله عليها، خاصة بين النساء والفتيات اللاتي يلجأن لجراحات التجميل وتغيير خلق الله حتى يعجبن الآخرين، بل ومنهن التي تطلب تغيير خلقتها لتشبه فلانة بعينها رفضاً لخلقة الله وتمرداً عليها.
3- القناعة بقليل الرزق، طالما أنه قد بذل الجهد.
4- القناعة بالقليل من الطعام دون إسراف أو تقتير.
5- القناعة في اختيار الملابس، فيكتفي المسلم بنظافتها والتزامها بالشروط الشرعية دون الحرص على ارتفاع ثمنها.
6- القناعة بالزوج والزوجة وعدم تقليب النظر في بنات المسلمين أو رجالهم بحجة عدم الرضا عمن رزقه الله به.
أثرها على الفرد والمجتمع
تترك القناعة آثاراً إيجابياً على الفرد والمجتمع، ومنها:
1- اطمئنان قلب المؤمن وعيشه حياة طيبة.
2- إرضاء الله عز وجل ونيل محبته.
3- علامة من علامات اكتمال الإيمان.
4- زوال مظاهر الحقد والغل والكراهية والتنافس السلبي من المجتمع المسلم.
5- تكون سبباً في وجود البركة في أرزاق المتحلين به.
6- إحدى علامات اكتمال الإيمان.
7- من أسباب التعفف وعزة النفس والكرامة عند المسلم.
طرق اكتسابها(6)
1- معرفة مكانة القناعة عند الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومن ثم التودد إليه سبحانه بالأخذ به قدر جهد النفس.
2- مذاكرة سير السابقين من الصحابة والسلف الصالح، والنظر لحالهم مع القناعة وسلوكهم بها.
3- تعلم قيمة الاقتصاد في الإنفاق وعدم الإسراف والتبذير.
4- الاستعانة بالدعاء والاعتقاد في قدرته على تغيير أي واقع صعب، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: «اللهم إني أسألك الهدى والتقى، والعفاف والغنى» (رواه مسلم).
5- النظر لمن أقل منه في الرزق، إلا ما كان في العبادات وكل ما يقرب إلى الله تعالى، فعن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه في المال والخلق، فلينظر إلى من هو أسفل منه» (رواه البخاري، ومسلم).
فقد أرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث إلى الطريق الذي يورثنا القناعة، ويملأ نفوسنا بالرضا، ويعرفنا نعم الله علينا؛ لنقوم بشكرها الواجب، فيزيدنا من نعمه، ذلك الطريق أن ننظر إلى من هو دوننا في أعراض الحياة الدنيا دون من هو فوقنا فيها؛ لأن ذلك يدعو إلى الاعتراف بنعمة الله علينا وإكبارها والشكر عليها، لا احتقارها والاستهانة بها(7).
6- الإيمان بأن تفاوت الأرزاق لحكمة عند الله، وربما لو اطلع على الغيب لاختار أقدار الله التي فرضها عليه.
_______________________
(1) مشارق الأنوار للقاضي عياض (2/ 187).
(2) تهذيب الأخلاق، ص29.
(3) جامع البيان للكبري (16/ 563).
(4) الكشف والبيان (7/ 23).
(5) روضة العقلاء، ص157.
(6) موسوعة الأخلاق والسلوك، خلق القناعة، بتصرف.
(7) الأدب النبوي، ص221.