يتطلع الإنسان دائماً إلى أن يتعامل معه غيره بالفضل لا بالعدل، ويتطلع المسلم في علاقته بربه أن يحاسبه الله تعالى بالفضل لا بالعدل.
ما العدل؟ وما الفضل؟
العدل: إعطاء المرء ما له وأخذ ما عليه(1)، والفضل: الزيادة والخير(2).
ويمكن القول: إن العدل يعني إعطاء كل ذي حق حقه، والتعامل مع الناس بإنصاف، أما الفضل فيعني تقديم الخير والإحسان للآخرين، حتى لو لم يكن ذلك واجبًا، والعدل هو الأساس الذي يجب أن يقوم عليه المجتمع، بينما الفضل هو ما يجعل العلاقات الإنسانية أكثر دفئًا ورحمة.
هل يرشد القرآن الكريم إلى المعاملة بالعدل أم بالفضل؟
قال د. محمد عبدالله دراز(3): لقد قلبنا النظر في جوانب كثيرة من إرشادات القرآن الحكيم، سواء في نطاق المعاملات المالية، أو في دائرة الشؤون الاجتماعية، أو في معرض الأحداث الجنائية، فوجدناه في كل ذلك ينهى عن التزيد في حق النفس، ويحض على الزيادة في حق الغير، أما المعاملة بالمثل فلا نجد نهياً عنها، ولا تحريضاً عليها، وإنما نجد إذناً وتخييراً ورفعاً للحرج، لا زائد على ذلك.
هكذا نظرنا في القرآن الكريم حين يتحدث في شأن المعاملة المالية، فوجدناه من جهة ينهى عن أخذ الربا، وعن أكل أموال الناس بالباطل، ومن الجهة الأخرى يأمر الدائن بإنظار مدينه المعسر، ويندبه إلى التصدق عليه بدينه، أما المحاسبة على السواء فلا يذكرها القرآن قادحاً ولا مادحاً، ولكن مقرراً لوضعها القانوني المباح، قال تعالى: (وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ) (البقرة: 279).
ثم نظرنا في القرآن حين يتناول أساليب المخالطة والمعاشرة، فوجدناه من جهة ينهى عن الفحش والأذى والخشونة والغلظة، ومن جهة أخرى يأمر بالعفو عن الأذى، والإعراض عن اللغو، ويثني الثناء المكرر على مقابلة الإساءة بالإحسان أو بالتي هي أحسن، أما مقابلة السيئة بالسيئة فيتركها حقاً سائغاً لمن حرص عليها، غير باغ ولا عاد.
ثم نظرنا في القرآن حين عرض لجريمة الإفك والقذف، فوجدناه ينهانا عن أن نعامل القاذف بقطع ما بيننا وبينهم من رحم، أو بمنع ما يستحقه لدينا من بر وصلة، ويحرضنا أشد التحريض على أن نشمله بكريم الصفح والمغفرة، التماساً لعفو الله ومغفرته.
فإذا استقصينا هذه المثل وأشباهها، فإن المنطق يتقاضانا أن نستخلص منها هذه القضية الكلية، وهي أن المعاملة الفاضلة في نظر القرآن، إنما هي المعاملة التي تقوم على العفو والإيثار والفضل، وأن الرذيلة إنما هي في الطرف الأقصى تقوم على الجور والاستئثار والبخس، أما الخطة التي بين بين، وهي المعاملة بالمساواة والمعادلة الدقيقة، فإنها إذا وزنت في معايير الحكمة القرآنية لم تستحق أن تسمى فضيلة ولا رذيلة، وإنما هي رخصة لا يتوجه إليها أمر ولا نهي، ولا يناط بها مدح ولا ذم، ولا يستحق صاحبها ثوابا ولا عقاب.
حل الإشكال
الإشكال البارز في هذه النظرية، أنها في بادئ الرأي تصادم المعقول والمنقول، أما المعقول فهو ما تقرر في الفطرة السليمة أن العدل فضيلة، فهو أساس الفضائل، وأما المنقول فالقرآن الكريم نفسه كثيراً ما يشيد بمبدأ العدل والمساواة، حيث قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ) (النساء: 135)، (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (المائدة: 8)، (وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (المائدة: 42).
إن مفتاح المسألة في نظرنا هو الفصل التام بين مقامين؛ مقام الحكم ومقام المعاملة، فمقام الحكم هو مجال العدل الدقيق الصارم، ومقام المعاملة هو مجال العفو والمسامحة والمكارمة والمجاملة، فالقاضي حين يفصل بين الخصمين والوالد حين يوزع بره بين أولاده، والمربي والمعلم والوصي والقيم، وكل راع في رعيته، ليس له أن يحابي أو يجامل أو يؤثر أو يفضل، إذ كيف يؤثر بشيء غيره؟ وكيف يتفضل بما ليس من حقه؟ أتتملكه عاطفة الإحسان على البائس الفقير، فيجامله على الحكم؟ كلا، لأن الله تعالى يقول: (إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا) (النساء: 135).
أتدفعه ثورة الغضب على العدو، فيضاعف عليه الغرم؟ كلا، لأن الله تعالى يقول: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (المائدة: 8).
أتحمله صلة القرابة، أو النسب، أو عصبية الإقليم، أو المذهب على التحيز لإخوانه فيها ظالمين أو مظلومين؟ كلا، لأن الله تعالى يقول: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الحجرات: 9).
أيحز في نفسه منظر العقوبة؟ أيزعجه صوت الشكاية فيعفو عن الجريمة، بعد أن ذاع صيتها، ورفع إليه أمرها؟ كلا، لأن الله تعالى يقول: (وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) (النور: 2).
أيترك دولة الإسلام نهباً لأعدائها، أو يقطعهم شبراً من أرضها، أو يمنحهم حق التحكم في رقبة من رقاب أهلها؟ كلا، إن أرض الإسلام وحقوق المسلمين ليست ملكاً لفرد ولا لجماعة، وليست حقاً لأمة، ولا لجيل من الأمم، إنما هي حق الأجيال كلها، حتى يرث الله الأرض ومن عليها، فالتسامح فيها تصرف في حق الغير، والضن بها والدفاع عنها ليسا بُخلاً في حظ النفس، وإنما هو غضب لحرمة الله والوطن، قال تعالى: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ) (البقرة: 190)، وقال عز وجل: (وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ) (النساء: 75).
هكذا نرى أن المجال الذي يكون فيه العدل فضيلة محمودة، بل هو فريضة مكتوبة، هو المجال الذي تكون أنت فيه طرفاً ثالثاً، وسطاً بين طرفين، فيكون واجبك أن توفي كل منهما حقه غير منقوص ولا مزيد، وكل شيء من المكارمة أو الإيثار هنا هو الجور بعينه، هذا ما نسميه مقام الحكم والفصل بين الناس، ونحن إذا تأملنا أكثر النصوص القرآنية التي وردت في مدح العدل، والأمر به، وجدناها صريحة في هذا الباب، قال تعالى: (وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) (النساء: 58)، وقال تعالى: (فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ) (ص: 26)، وقال عز وجل: (وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) (المائدة: 42).
أما حيث أنت أحد الطرفين، تتصرف في شيئك، وتساوم في حقك، فهذا ما نسميه مقام المعاملة، وهذا هو المجال التي تتوجه فيه دعوة القرآن إلى العفو والمسامحة، وإلى الإيثار والمجاملة، وهو المجال الذي يخرج فيه مبدأ العدل والمساواة من نطاق الفضائل والرذائل جميعها، إذ يهبط من مستوى الواجبات إلى مستوى الرخص والمباحات، وتبقى الفضيلة للفضل وحده.
________________________
(1) المعجم الوسيط: مجمع اللغة العربية (2/ 588).
(2) معجم مقاييس اللغة: ابن فارس (4/ 508).
(3) نظرات في الإسلام: د. محمد عبد الله دراز، ص 83.