لا يمكن أن ينسى أغلب مشاهدي التلفاز في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي خاصة من أهل البلدان العربية والإسلامية، مدى الدهشة التي كانت تصيبهم كلما شاهدوا برامج عروض الأزياء أو استعراض «موضات» قصات الشعر الجديدة في الولايات المتحدة الأمريكية أو أوروبا، إذ كانوا يتساءلون مستنكرين: ما هذا العالم المجنون؟! وهل يمكن لأي شخص عاقل في أي من أركان العالم أن يرتدي مثل هذه الملابس أو يقص شعره على هذه الطريقة؟!
والحقيقة أن هذه الدهشة كانت في محلها لاعتبارين أساسيين؛ أولهما: أن تصاميم هذه الأزياء لم تكن على الإطلاق مناسبة للقيم الدينية أو للعادات والتقاليد المجتمعية التي كان يلتزم بها أغلب أهل هذه البلدان، وثانيهما: محدودية أعداد الذين يتبعون أو يلتزمون بمثل هذه التصاميم أو التقاليع الجديدة حتى في بلاد المنشأ والإنتاج، وهم الذين كانوا في الأغلب الأعم من المحسوبين على فئات اجتماعية أو مهنية بعينها، أو من أولئك الذين ينتمون لحركات شبابية متمردة.
الاختراق الناعم
ليس صعباً أن نقسم ما مرت به علاقة بلداننا العربية والإسلامية مع «الموضة» وتقاليعها الغربية إلى مرحلتين زمنيتين؛ الأولى: هي مرحلة الاستعمار الغربي لهذه البلدان التي كان الغرب فيها مسيطراً على هذه البلدان ومقدراتها؛ ما أوجد لدى البعض شعوراً بالدونية ولَّد رغبة لدى هؤلاء لتقليد الغرب واتباعه في كل حركاته وسكناته إلى الحد الذي كان هناك فيه من بين النخبة الفكرية والثقافية لهذه الشعوب من كان يدعو لذلك صراحة؛ قادة التيار التغريبي، كون أن هذا الغرب، بحسب تصورهم، قبلة للتطور والتقدم العلمي، وهي الدعوات التي استجابت لها فئات مجتمعية محدودة.
وبدا لدى بعض هؤلاء في بداية الأمر، بل وترسخ في أذهانهم، أن اتباع هذه الموضة وتقاليعها من الرقي والتحضر ودليل على الانتماء للطبقات الاجتماعية الرفيعة، ليصبح ذلك فضلاً عن أنه من ضرورات «الشياكة» معياراً لما يتمتع به الرجل أو المرأة من الانفتاح والرغبة في مسايرة التطور وتقليد أهل الغرب.
أما المرحلة الثانية، فهي مرحلة ما بعد نزوح الاحتلال الأجنبي وتنامي الشعور الوطني لأغلب الشعوب التي سعت جاهدة لاستعادة قيمها الدينية وتقاليدها وتراثها الخاص؛ وهو ما جعل برامج الموضة وما تقدمه ولسنوات طويلة مجرد فقرة يستخفها الكثيرون فتكون متابعتها اضطرارياً كونها تحجز مساحة زمنية على شاشات التلفاز محدود القنوات آنذاك، أو من باب التسلية المثيرة للسخرية فبقيت ذات أثر ضعيف.
لكن في مقابل ذلك، لم يمل الغرب من العمل على تنميط المجتمعات بالشكل الذي يريد فسعى إلى التركيز على آليات أخرى ربما كانت قديمة لكنها أكثر فاعلية في التأثير لعل أبرزها السينما؛ إذ كانت الشهرة التي حصل عليها العاملون والعاملات بها «التنجيم» كفيلة بأن يكونوا نماذج للتقليد والتشبه من قبل الشباب والشابات من المنتمين أيضاً إلى طبقات اجتماعية بعينها ليتسلل هذا التقليد بعد ذلك شيئاً فشيئاً إلى بقية فئات المجتمع.
ثم جاءت العولمة وما صاحبها من ثورة في الاتصالات لتدعم التوجه الغربي في عملية تنميط المجتمعات ليس على مستوى الأزياء أو قصات الشعر فحسب، بل في كل شيء يمكن أن يستخدمه أو يسلكه المرء كالسيارات والأدوات الكهربائية والإكسسوارات وحتى أنواع الطعام والمشروبات وطريقة الأكل والحركة وغير ذلك.
طبقية الموضة
ومع مرور الوقت، أصبحنا أمام شكلين من الموضة والتقاليع الجديدة، أحدهما تتبعه النخبة المجتمعية وطبقة الأغنياء حيث الماركات العالمية في الأزياء (البرندات)، وما بات يعرف بـ«السينيه»، ولوازم ذلك من بقية المكملات كالنظارات وسلاسل المفاتيح والساعات باهظة الثمن والخواتم و«الحظاظات» وما شابه، وأما النوع الثاني فهو موضة الفقراء وفئات العمال والمهمشين والمناطق الشعبية، وهؤلاء أيضاً حريصون على اتباع تقاليع الموضة الخاصة بهم التي يحاول بعضها محاكاة موضة الأغنياء ولو على مستوى الشكل.
وعلى الرغم من أن كلتا الفئتين قد التزمت الموضة، لكنَّ ثمة تبايناً كبيراً في شكل كل منهما، وهو ما رسخ بطبيعة الحال للطبقية المجتمعية، وأوجد بوناً شاسعاً بين طبقتين، غير أن المهم لدى الغرب هو تنميط حياة كلتا الطبقتين ودفعهما للسعي حثيثاً لاتباع كل ما يقدمه فيبقى الجميع رهن ما يريد.
الموضة والهوية
ربما يرى البعض أنه لا علاقة بين التزام الزي الوطني والحفاظ على الهوية؛ إذ إن هناك شعوباً غيَّرت من جوانب ثقافتها لكنها حافظت على الزي الوطني كأيقونة، فيما أن شعوباً أخرى لم تتمسك أغلبيتها بالزي الوطني لكنها فصلت بينه وبين القدرة على التجديد الثقافي والحفاظ على استقلال الهوية، يدعم ذلك أن الإسلام لم يعين لباساً محدداً للمرأة أو للرجل، غير أنه اشترط مواصفات محددة تضمن ستر العورة والحشمة.
لكن، وفي ظل التصارع الهوياتي، بات من المؤكد أن الزي أحد مظاهر التعبير عن الهوية، وأن اللباس من شعارات الأمم، وهو ما أشار إليه أحد الغربيين وهو برنارد لويس بقوله: «الملابس تعبر عن الهوية والانتماء»؛ لذا وعلى مستوى المرأة مثلاً وفي ظل عصر الاستلاب الثقافي والحضاري لم تسلم المجتمعات العربية والإسلامية من سعار الموضة والأزياء الغربية لتلهث الكثيرات بكل أسف وراء آخر صيحات الموضة وأدوات التجميل وتفصيلات بيوت الأزياء الغربية؛ فيقلدن نساء الغرب في لباسهن وعاداتهن وتقاليدهن، في حين كسرت بعض خطوط الموضة الغربية الحاجز بين الرجال والنساء، فأصبح الكثير من الرجال يتشبهون في ملابسهم بالنساء والعكس بالعكس، وهي أمور بلا شك تعد مخالفة صريحة للتوجيهات الإسلامية والعادات المجتمعية.
معايير الجمال
ويا ليت الأمر اقتصر على عولمة الموضة وتقاليعها، لكن هدف الغرب كان أعمق من ذلك؛ إذ عمل وعلى مدار عقود عديدة على تحديد معايير جمال جديدة للمرأة وللرجل هي في حد ذاتها أضحت تجارة واسعة حقق من ورائها أرباح هائلة؛ إذ يحتاج مثلاً نموذج جمال المرأة المستحدث الذي سوق له الغرب بكل طاقاته وإمكانياته الدعائية إلى أدوات كان هو صانعها ومطورها بين الحين والآخر.
وبالطبع، فقد عمل الغرب على إسقاط مبدأ قيمي التزمته أغلب الشعوب؛ وهو أن جمال المرأة ليس جمال الوجه، وإنما جمال الأخلاق ليصبح النموذج الذي يلح الغرب على تقديمه للمرأة والترويج له هو نموذج الإغراء والإثارة وتوافر المواصفات التي وضعها الغرب، فيما استخدم كل ألوان التأثير النفسي ليُقنع بها الآخرين؛ وهو ما أسفر عن أرقام مذهلة لاستهلاك النساء للمساحيق والبودرة وصبغات الشعر وطلاء الأظافر والشفاه والعطور وأدوية التخسيس وأجهزته الخاصة وغير ذلك التي تضاعفت بحسب الإحصاءات 5 مرات خلال الثلاثين عاماً الأخيرة.
يضاف إلى ذلك، انتشار ظاهرة تبييض البشرة لتكون مثل بشرة الشقراوات الغربيات أو تحويلها للون البرونزي وإجراء الملايين من عمليات شفط الدهون وتغليظ الشفاه وشد الوجه والرقبة وعمليات جراحة التجميل في العديد من أجزاء الجسم لتكون متسقة مع المعايير الغربية التي تتغير وفق المستجدات الحادثة في أوروبا وأمريكا التي بكل تأكيد لا تأتي متطابقة مع مواصفات الجمال التي كان يعتمدها كل شعب من الشعوب.