يولد الطفل وتولد معه الرحمة والشفقة في قلبي والديه، فيتمنيان لو يحفظانه من كل سوء، فلا يصيب قلبه هم، ولا يعكر صفو ضحكاته دمع، ولكن قضى الله أن الحياة لا تخلو من الهم والكدر، فمع أولى خطوات الطفل في الحياة يتعثر ويسقط حتى يتم مهارة المشي، وكذلك في الكلام وسائر الحاجات، ليتعلم الطفل ومعه والداه أن الحياة ليست وردية، ولا بد فيها من التعب، وتجربة النجاح تارة والفشل أخرى، وشيئًا فشيئًا يكبر مع الطفل ذلك المعنى كلما خاض غمار الحياة، ولذا وجب على الآباء إفهام أبنائهم كيف يتعاملون مع صعوبات الحياة وما فيها من محن وابتلاءات.
وقد جاء الإسلام بوسائل كاملة لتربية الطفل منذ صغره لينشأ واعيًا بحقيقة الحياة، قوياً في خوض بحارها والنجاة من دواماتها، محصنًا من أن ينتكس لما يراه من صعوبات، وفيما يلي أهم الوسائل لذلك:
1- غرس العقيدة ومنها مفهوم الابتلاء:
يبدأ المربي بغرس العقيدة السليمة منذ ميلاد الطفل، فيحدثه تدريجياً عن الله خالق كل شيء، والثواب والجنة التي أعدها الله لعباده الصالحين، ويتدرج مع الطفل حتى يصل إلى مفهوم الابتلاء؛ وأن فيه رفعاً للدرجات وغفراناً للذنوب، فحينما يسقط الطفل يعلمه الوالدان قول: «الحمد لله على كل حال»، ثم حينما يرى شخصًا مبتلى يُكرر على مسامعه تلك المعاني، ويتم طمأنته بأن هذه الآلام تُخفف برحمة الله، وأن المهم فوز العبد بالجنة؛ فإن نعيمها يُنسي أي تعب قد لاقاه في الدنيا.
فيتم غرس هذه المفاهيم من خلال الأحداث الحياتية التي يعيشها الطفل، فيفهم أن حياة كل الناس مليئة بالصعوبات، ولكن نظرة المسلم لها مختلفة.
2- إفهامه السنن الكونية ببساطة:
يمكن إيصال مفهوم السنن الكونية للطفل من خلال دمج قصص الأنبياء مع المواقف الحياتية، بحيث لا تكون قصص الأنبياء مجرد قصص تُقرأ، ولكن صورة حية أمام الطفل، فيأخذ المربي لقطة منها، ويتم التركيز عليها حتى يتشرب معانيها، ومثال على ذلك إفهامه معاني جليلة، منها:
– الاستضعاف: فمع حصار غزة في هذه الأيام يمكن الحديث مع الطفل عن حصار النبي صلى الله عليه وسلم في شِعب أبي طالب، ويريه كيف ثبت المسلمون في تلك المحنة حتى جاء نصر الله، وأنه من سُنة الله علو الكفار كاختبار لصدق المسلمين وثباتهم، ثم تكون العاقبة للمتقين.
– الظلم: فقد يرى الطفل ظلمًا يصيبه هو أو من حوله، فيعيش مع قصة يوسف عليه السلام، وكيف ابتلي بالسجن ظلماً، ولكنه ظل يدعو الناس إلى التوحيد وهو في السجن، وأن قضية التوحيد هي أهم ما يحيا العبد لأجله، فلا يتركها مهما اشتد به الابتلاء.
– العدل: فإن تحقق العدل الكامل في الدنيا ممتنع، بل سيتحقق في الآخرة، فلا يحزن المسلم إذا لم ير النصر أو لم حصل على شيء من حقوقه في الدنيا.
3- إفهامه معنى مجاهدة النفس:
أحياناً وبدون قصد يقدم الوالدان صورة وردية لطبيعة الإنسان، مثل تجميل صورتهم إذا أخطؤوا، أو أنهم ناجحون دائماً ولم يفشلوا قط، وهذا مخالف لطبيعة الإنسان الخطَّاءة، ولكن الصحيح إفهامه أن النفس الإنسانية ضعيفة، وأن قوتها وفلاحها متوقف على مقدار تمسكها بحبل الله، والحاجة لتزكية النفس بانتظام للتحلي بالصفات الطيبة، والمسارعة بالتوبة والاستغفار وعدم الإصرار على الخطأ، كل هذا يجعل الطفل يسير في الحياة على بصيرة ووعي بحقيقة نفسه ومن حوله.
4- ضبط تصوراته عن الدنيا:
إن الحياة مليئة بالمغريات، فربما يتطلع الطفل ليحوز أمورًا ليست عنده، أو يرى فاسدًا يتنعم في الدنيا فيفتن بذلك، فهنا يجب إفهامه حقيقة الدنيا، وأنها دار تنافس وتفاخر، وهي حقيرة عند الله حد أنه يعطيها للكافر استدراجًا له وفتنة لغيره، وإفهامه تلك المعاني من خلال قصة قارون أو الوليد بن المغيرة مثلًا.
وربما يتطلع الطفل لحياة بدون هَمّ أو جهد، وهذا يُصحح بأن الدنيا دار شقاء وليس بها راحة، والآخرة هي دار النعيم والراحة بلا شقاء، وأن كل فرد في هذه الحياة لا بد أن لديه همًا؛ فإما أن يكون همه الدنيا أو الآخرة، فتصور أن يخلو أحد من الهموم تصور ساذج جداً، ولكن من كانت الآخرة همه أعانه الله وكفاه همّ دنياه.
5- عدم الحماية الزائدة:
أن يُترك للطفل الفرصة لكي يحل مشكلاته ويُدير مشاعره، مع توجيه للصواب بالطبع، ومثال على ذلك:
– حينما يلعب الطفل بلعبة ويفشل في حلها ويغضب، فهنا يجب على المربي ألا يهرع لحمايته وحل مشكلته، بل يعطي له فرصة للتعامل مع مشاعر الإحباط ويشجعه على التجربة مرة أخرى، وإن فشل الطفل يساعده المربي بالتوجيه والنصح وليس بتقديم حل جاهز.
– وإذا ضايق الطفلَ أحدٌ فلا يهرع المربي لرفع الضيق، بل يترك فرصة لرؤية رد فعل الطفل، ثم يتم توجيهه إلى السلوك المطلوب.
6- تقدير المشاعر مع تحمل عاقبة الفعل:
يُعلّم الإسلام الفرد أن يتحمل عاقبة أفعاله، لأنه سيحاسب وحده، ويجب إفهام الطفل هذا المبدأ من صغره، فمثلًا إذا لم يتحمل الطفل المسؤولية ويقوم بتنفيذ الواجب المطلوب، فلا يقوم المربي بحله ليجنب الطفل لوم المعلم، بل يتركه يتحمل نتيجة تقصيره، ويتعلم أن مسؤولياته لن يؤديها غيره.
وهذا لا يتعارض مع تقدير مشاعر الطفل، فعندما يشعر بالحرج بسبب لوم معلمه لا يعنفه المربي، بل يطمئنه بتفهمه لشعوره، ثم يوجه تلك المشاعر.
إن كل موقف في حياة الطفل يمكن استغلاله في تسريب معاني إيمانية تغرس في نفسه رويداً رويداً، حتى يمتلئ قلبه بها ثم يستقيم سلوكه تبعًا لذلك.