الإسلام نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعاً، فكما هو عبادة وعقيدة، فهو سلوك وأخلاق ومفاهيم ربانية تنظم حياة الناس وشؤونهم العامة والخاصة، وقد اهتم الإسلام بكل خُلق يرفع من قيمة المودة والرحمة والتكافل بين الناس ويزيد أواصر الحب والخير، وبذلك تكون العدالة الاجتماعية في الإسلام فرعاً أصيلاً من فروع الدين، فهو ينظم حياة الناس جميعها،
وهو مفهوم شامل يشير إلى توزيع الحقوق والواجبات بين أفراد المجتمع بطريقة تحقق المساواة والعدالة، وتضمن تكافؤ الفرص، وتحفظ الكرامة الإنسانية، مع مراعاة التفاوت الطبيعي بين البشر،
يقوم هذا المفهوم على عدة مبادئ أساسية مستمدة من القرآن الكريم والسُّنة النبوية تضمن تحقيق مبدأ العدالة الاجتماعية كما وضعها الله عز وجل في كتابه، وأكدت عليها السُّنة النبوية توضيحاً وتطبيقاً.
الأسس التي بني عليها مبدأ العدالة الاجتماعية في الثقافة الإسلامية
1- التوحيد والعبودية لله:
العدالة الاجتماعية في الإسلام تنطلق من مبدأ أن الله هو الخالق لجميع البشر؛ وبالتالي فإن جميع الناس متساوون أمامه، بغض النظر عن العرق أو الجنس أو اللون؛ يقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (الحجرات: 13).
إننا اليوم قد نقرأ تلك المفاهيم أو نسمعها بشكل طبيعي دون أن تترك في النفس آثاراً سلبية، أو قد تكون عدائية في بعض الأحيان، فحين أتى الإسلام حدث شقاق كبير في المجتمع الجاهلي بين طبقة السادة الذين كانوا يحسبون أنهم من طبقة أخرى غير طبقة البسطاء والعبيد، فكان يحق لهم تعذيب عبيدهم وكأنهم أشياء من أملاكهم وليسوا بشراً لهم حقوق، فأتى الإسلام ليساوي بين هؤلاء جميعاً، وأنهم جميعاً بشر وعبيد لله الواحد الأحد، وربما كان هو سبب العداء الأول بين صناديد الكفر وبين الإسلام، فالتكريم والتفضيل ليس للون، وليس للمال، وليس للجنس، وليس للجاه، إنما التفضيل للتقوى بين البشر من منطلق العبودية لله عز وجل.
إن التوحيد لم يكن مجرد عقيدة تجه الناس لعبادة ربهم من دون كافة الآلهة المزعومة، وإنما كان التوحيد مرجعية للمسلم في كافة شؤونه الخاصة والعامة، الفردية والاجتماعية، وكأنه بإعلانه التوحيد يقول، أنا ملك لله خالصاً، فيأمرني بما يشاء وأنا العبد الطائع له.
2- تحقيق المساواة:
الإسلام يدعو إلى المساواة في الحقوق والواجبات دون تمييز، فلا مكان للتحيز بناءً على الطبقة الاجتماعية أو الثروة، طالما أن الله الخالق الذي نؤمن به ونوحده قد ساوى بين جميع خلقه، يقول تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) (الإسراء: 70)؛ فالتكريم لكل إنسان، والمساواة بين الجميع كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لينتهين أقوام يفتخرون بآبائهم الذين ماتوا إنما هم فحم جهنم، أو ليكونن أهون على الله عز وجل من الجعل الذي يدهده الخرء بأنفه إن الله أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء إنما هو مؤمن تقي، وفاجر شقي، الناس بنو آدم، وآدم خلق من تراب» (أخرجه الترمذي).
3- العدالة الاقتصادية:
ينادي الإسلام بنظام اقتصادي يقلل الفجوة بين الطبقات الاجتماعية من الأغنياء والفقراء من خلال الزكاة، والصدقات، ومنع الربا، وتحريم الاحتكار، فيقول الله تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا) (التوبة: 103)؛ فالمال يظل دنساً حتى يؤخذ منه حق الفقراء في الزكاة، وهي حق وليست هبة من الغني للفقير، وليست موطناً للفخر، وإنما هي حق في مال الله الذي استخلف فيه بعض عباده مما يحفظ كرامة الفقير وحقوقه، فالعدل والإحسان أساس الحياة الاجتماعية السليمة.
4- العدالة القضائية:
الإسلام جعل الجميع متساوين أمام القانون بغض النظر عن فلان أو ابن فلان، وقد وقعت واقعة المرأة المخزومية التي سرقت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان الجواب القاطع للمساواة بين الناس في الحدود، فقال صلى الله عليه وسلم: «إنما هلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحق، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها» (رواه البخاري).
5- التكافل الاجتماعي:
العدالة الاجتماعية لا تتحقق إلا من خلال نظام يقوم على التعاون والتضامن بين أفراد المجتمع، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» (رواه البخاري)، وفي أحقية المحتاج في مال الغني: (وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) (الذاريات: 19)، وللحفاظ على صورة المجتمع اقتصادياً يقول تعالى: (كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ) (الحشر: 7).
القواعد الفقهية الداعمة للعدالة الاجتماعية
1- «لا ضرر ولا ضرار»؛ فالتعامل في المجتمع المسلم يستند إلى قاعدة وضعها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: «لا ضرر ولا ضرار» (رواه ابن ماجه)، فلا يجوز الاحتكار على سبيل المثال.
2- «الأصل في الأشياء الإباحة حتى يدل الدليل على التحريم»، فلا تقييد لحرية الإنسان إلا بنص تحريمي، يقول تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا) (البقرة: 29).
3- «الضرر يزال»؛ وهو الإسراع بإزالة أي ضرر يلحق بالفرد أو المجتمع، فيقول تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (المائدة: 2).
4- «الحاجة تنزل منزلة الضرورة»؛ وذلك لقوله تعالى: (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ) (البقرة: 173).
5- «العدل أساس الحكم»، يقول تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ) (النحل: 90).
6- «درء المفاسد مقدم على جلب المصالح»؛ لقوله تعالى: (وَلَا تَفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا) (الأعراف: 56).
7- «الأمور بمقاصدها»؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات» (رواه البخاري).
8- «الغنم بالغرم»؛ أي من ينتفع بشيء يتحمل تبعاته: لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «على اليد ما أخذت حتى تؤديه» (رواه الترمذي).