يحظى العقل الإنساني بمكانة كبيرة في القرآن الريم والسُّنة النبوية، على خلاف ما يروج له أعداء الإسلام، وانطلقوا من ذلك إلى اتهام ديننا بالجمود الذي أفضى بالمسلمين إلى التخلف عن ركب الحضارة الإنسانية، متعمدين تجاهل فترات الازدهار في تاريخ الحضارة الإسلامية التي سادت العالم لقرون طويلة، وأضاءت الأرض بمنجزاتها الحضارية والتاريخية.
حول قيمة العقل، ومكانته في الإسلام، وجهود تدريس علوم القرآن، كان لـ«المجتمع» هذا اللقاء مع أ.د. عبدالفتاح خضر، عميد كلية القرآن الكريم بجامعة الأزهر بطنطا (شمال القاهرة)، العميد السابق لكلية أصول الدين والدعوة بالمنوفية، أستاذ التفسير وعلوم القرآن.
في البداية، ما معنى وأهمية العقل في الإسلام باعتباره مناط التكريم والتكليف؟
– من تعريفات اللغويين لـ«العقل» بأنه الإمساك والاستمساك، وهي مشتقة من عقال البعير بالعقال، والحبس عن ذميم القول والفعل، ونقيض الجهل لأن العقل وسيلة تحصيل وقبول العلم، وهو سبب التكريم لآدم وأبنائه من بعده، ومرتبط به التكليف والحساب لأنه آلة الإدراك والتمييز ويتميز به عن بقية المخلوقات، فقال الله تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) (الإسراء: 70)، وبالتالي لا تكليف ولا حساب على المجنون، ومن اهتمام الإسلام به أنه من الضرورات الخمس التي يجب الحفاظ عليها لأهميته الكبرى في حياة الإنسان المكرم من الله.
رداً على القائلين بأن الإسلام يعادي العقل ويهمشه، ماذا عن اهتمام القرآن الكريم بالتأكيد على أهمية العقل؟
– وردت مادة «عقل» بمختلف مشتقاتها في القرآن 49 مرة، ويؤكد النحويون أنها جاءت في جميع التكرارات بصيغة الفعل وليس الاسم، كما وردت بصيغة المضارع والماضي، كذلك جاءت مرة بصيغة الجمع المتكلم، ومرة واحدة بصيغة المضارع المفرد، وتكررت في 24 مرة بصيغة الجمع المخاطب، وجاءت في 22 مرة بصيغة الماضي الجمع، ووردت في القرآن العديد من الألفاظ المرادفة لـ«العقل»، مثل: القلب، النُّهى، الحجْر، الحلم، اللبّ، الفؤاد، الأبصار.. وغيرها.
هذا من الناحية العددية أو الإحصائية، فما المعاني التي جاءت بها مادة «عَقَل» ومشتقاتها في الذكر الحكيم؟
– تؤكد الدراسات القرآنية أن مادة «عَقَل» وردت في كتاب ربنا بالعديد من المعاني، أهمها ما يتعلق بالعلم والمعرفة والتدبر والفهم، وهي المعاني الأكثر عدداً، وقد تأتي «عَقَل» بمعنى القلب الذي يفهم دلائل قدرة الله في خلقه والتفكر في آياته وعظمته، وهناك آيات جاءت بمعنى المنع عن الشيء، وكذلك اتباع الحق ونقد وتوبيخ من لا يتبعون الحق؛ مما يؤكد أن للعقل ومكانته الكبيرة في القرآن الكريم باعتباره مناط التكليف وبدونه يسقط التكليف ولا تتم مؤاخذة صاحبه ع ما يفعل، ويكفي أن نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ) (يونس: 101)، وقوله سبحانه: (أفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (الحج: 46).
قد يقول قائل: إن مشاهير العلماء لا دين لهم، وأعلن بعضهم إلحاده، فلماذا لم يقده عقله إلى الله الخالق؟ فما ردكم؟
– رغم أن الإسلام حث الناس على إعمال عقولهم، فإن هناك فرقاً بين النبوغ العقلي ونعمة الهداية، فالدنيا يعطيها لمن يحب ومن لا يحب، أما الدين فلا يعطيه إلا لمن أحب، بدليل أنه رغم الحب الشديد من الرسول صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب، وهو من عقلاء وحكماء قريش، فإنه لم يستطع أن يصل به إلى الهداية، وأنزل الله في هذا قرآناً يتلى إلى يوم القيامة فقال الله تعالى: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ۚ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (القصص: 56)، وكذلك من يهمل نعمة العقل فإنه يكون في منزلة أقل من الحيوانات، فقال تعالى: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ) (الأنفال: 22)، وقال في آية أخرى: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) (الأعراف: 179)، وحذرنا الله من تعطيل العقل لأنه يقود للنار، فقال تعالى: (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ) (الملك: 10).
ماذا عن العقل في السُّنة النبوية؟
– هناك العديد من الأحاديث النبوية الصحيحة في العقل كثيرة، منها ما يقرر به أمراً تشريعياً مثل إسقاط التكليف عن ثلاثة منهم فاقد العقل، فقال صلى الله عليه وسلم: «رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن المعتوه، أو قال: المجنون، حتى يعقل، وعن الصغير حتى يشب»، وهذا تأكيد على أن العقل مناط التكليف الشرعي لقدرته على فهم ما جاء به الوحي الإلهي، ومراد الخالق فيما أمر به ونهى عنه.
وهناك أحاديث أخرى يمدح فيها الرسول صلى الله عليه وسلم من يتصف بالعقل والحكمة، فقال الرسول لاشجّ عبد القيس: «إنّ فيك خصلتين يحبّهما الله: الحلم والأناة»، قال الإمام النووي: الحلم هو العقل، وأمّا الأناة فهي التثبّت وترك العجلة.
هناك أحاديث تربط بين العقل وبعض العبادات، كيف؟
– هناك العديد الأحاديث النبوية التي بينت العلاقة بين العبادات والعقل، منها ما رواه أبو مسعود الأنصاري حيث قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح مناكبنا في الصلاة، ويقول: «استووا ولا تختلفوا، فتختلف قلوبكم، ليلني منكم أولو الأحلام والنُّهى، ثمّ الذين يلونهم»، قال الإمام النووي: أولو الأحلام هم العقلاء، وقيل: هم البالغون، والنُّهى هي العقول، وسأل أحد الصحابة: يا رسول الله، خبّرني بعمل يقرّبني من الجنة ويباعدني من النار، قال: «أو ذلك أعملك، أو أنصبك؟»، قال: قلت: نعم، قال: «فاعقل إذاً، أو افهم، تعبد الله لا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤدّي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحجّ البيت، وتأتي إلى الناس ما تحبّ أن يؤتى إليك، وتكره للناس ما تكره أن يؤتى إليك».
ولم يقم الرسول صلى الله عليه وسلم حد الزنى على ماعز بن مالك الأسلمي إلا بعد أن تأكد صحة عقله من قومه بعد أن رده أكثر من مرة، حيث سألهم: «أتعلمون بعقله بأساً تنكرون منه شيئاً؟»، فقالوا: ما نعلمه إلا وفيّ العقل، من صالحينا، فيما نرى.
العقل والعلم وجهان لعملة واحدة، وبالتالي فإن ضياع العلم مرتبط بتقليل قيمة العقل، فهل هناك أحاديث تؤكد ذلك؟
– نعم، فهذه النصيحة النبوية للصحابي أبي ذر الغفاري: «يا أبا ذرّ، اعقل ما أقول لك، لعناق يأتي رجلاً من المسلمين خير له من أحُد ذهباً يتركه وراءه، يا أبا ذرّ، اعقل ما أقول لك، إنّ المكثرين هم الأقلّون يوم القيامة، إلا من قال كذا وكذا، اعقل يا أبا ذر ما أقول لك، إنّ الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، أو إنّ الخيل في نواصيها الخير».
وهذه نصيحة نبوية أخرى لصحابي أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: مرني بأمر ولا تكثر عليّ حتى أعقله، قال: «لا تغضب»، فأعاد عليه «لا تغضب»، وأكد الصحابي أنس بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُعيد الكلمة ثلاثاً لتعقل عنه أو تفهم عنه.