تلهث مؤسساتنا التعليمية العربية وراء كل ناعق في الغرب، وتحت سياط الانهزام الحضاري أمامهم تسعى تلك المؤسسات لإتباع مناهجهم المنحرفة في مقصدها والمزيفة في جوهرها، فلم يجنوا من ورائها سوى الغث الذي يعادي قيمنا الدينية والحضارية، ويخالف تعاليم ديننا الحنيف في مجمله.
ووراء فتنة الغرب المتقدم نتخلى تدريجياً عن أصولنا وهويتنا العربية انسحاقاً للغرب المسيحي وللنفوذ الصهيو-أمريكي بالمساس بثوابتنا المقدسة داخل مناهجنا التعليمية؛ مما يهدد بخروج أجيال مقطوعة الصلة بماضيها وتاريخها وتراثها؛ الأمر الذي يتطلب من المخلصين في أمتنا أن يواصلوا الليل بالنهار من أجل تطوير منظومات تعليمية تتوافق مع أصولنا، وتربط أجيالنا بأمجاد أسلافهم في ظل الأوضاع المزرية التي تعيشها أمتنا العربية والإسلامية اليوم على كافة الأصعدة الاقتصادية والعلمية والسياسية والعسكرية والاجتماعية، فهل تنجح تلك الجهود المخلصة في انتشال الأجيال المقبلة وإنقاذ ما يمكن إنقاذه؟
بداية، يؤكد عضو المجلس التنفيذي لنقابة المعلمين في لبنان إيهاب نافع، لـ«المجتمع»، أنه تتعدّد الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية على امتداد العالم العربي، لكن لم تزل المنظومات التعليمية العربية عاجزة عن تلبية الاحتياجات، رغم الجهود المتنوعة المبذولة، خاصة لجهة نوعية التعليم، وأنه يمكن الإشارة إلى أن هذه الجهود تسلك أحد مسارين وفق الواقع الاقتصادي للدولة المعنية؛ الأول: مسار استنساخ التجارب العالمية في الحوكمة والتخطيط التربوي وطرائق التعليم مع توفير أفضل المستلزمات والوسائل والوسائط.
والثاني: الاكتفاء باستنساخ مناهج عالمية وتوفير وسائل حديثة ضمن حدود المتاح، وكلا المسارين محمودٌ في منطلقاته ومنطقيٌّ في سعيه للاستفادة من التجارب والمناهج الرائدة، إلا أنّ كليهما يعاني من نقص الفعالية لأسبابٍ متشابهة قد يكون من أهمها النظرة الضيّقة إلى الإصلاح التعليمي التي تجعل منه إصلاحاً رأسياً يغفل دور المجتمع بمكوناته المختلفة في بلورة العملية الإصلاحية، وإصلاحاً جزئياً للمنظومة التعليمية يغفل ربطها بالحياة وسوق العمل ويغفل دمجها في منظومة متكاملة تأخذ بعين الاعتبار الأبعاد الثقافية والاجتماعية وسواها.
نافع: إصلاح التعليم بالعالم العربي بتجاوز الروتين البيروقراطي والاستفادة من أفضل التجارب العالمية
ويواصل نافع أنَّ البلدان العربية عموماً قد حقّقت تقدّماً حقيقياً في الجانب الكمّي للتعليم سواء للبنين أو للبنات، لكن لا يحصل أغلب الخريجين على مهارات أكثر تقدماً مثل التحليل والتفكير النقدي؛ ما يتيح لهم التفاعل الملائم مع التحديات المعاصرة؛ إضافةً إلى المهارات الإدراكية المتدنية مثل التذكّر والاستيعاب، فضلاً عن أن العديد من العمليات الإصلاحية تجاهلت الهوية الوطنية والدينية؛ ما أدى إلى صراعات مع من رأوا في هذا التجاهل طعناً في هذه الهوية، ولا بد من تعاط موضوعي وشجاع مع هذه المواضيع لتحمل المناهج الدراسية معها التعبير الصادق عن الهوية والتوق إلى الحفاظ على مقومات الأمة، والسير الحثيث إلى الأمام في درب العلم والتقدم.
واختتم الخبير التربوي بتأكيده أن إصلاح منظومة التعليم في العالم العربي ينبغي، برأيه، أن يتجاوز الروتين البيروقراطي المكرر عبر إشراك مكونات المجتمع من نقابات للمعلمين ومؤسسات وجمعياتٍ أهلية في بلورة مناهج فعالة تحفل بالمتقدم من العلوم والدراسات وتستفيد من أفضل التجارب العالمية في هذا المجال وتتناغم مع هوية المجتمع، وبذلك يصبح خريجونا من الأفضل انتماء وكفاءة.
مناهج التعليم وفلسفة الهوية
من جانبه، يؤكد المدير العلمي للكلية الأوروبية للعلوم الإنسانية بألمانيا د. طه سليمان عامر، لـ«المجتمع»، أن الأفكار تصنع المجتمعات، وترسم صورتها، وتحدد ملامحها، وتنمط سلوكها، وأخلاقها، وتقودها الوجهة التي تريدها، فالمجتمعات التي تفاخر بالعلم والقراءة والثقافة والفكر؛ تقل فيها البطالة والأحقاد والجريمة والكراهية والانشغال بسفاسف الأمور، بينما يفترس الجهل والمرض أمماً وشعوباً، وتتفشى الجرائم ومنكرات الأخلاق.
لذلك، أزاح الله الغشاوة عن عيون الناس وبصَّرهم بالحق وزودهم بأدوات الفهم حين تعهدهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب الهادية من الضلال إلى الرشد فقال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ {43} بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (النحل).
وأضاف عامر أن بهذا المنهج حرر الله العقل من الخرافة والأوهام، وطهَّر القلب من الخوف والآثام، وشغل الجوارح بما فيه مصالح الأنام؛ حيث إن ملامح مستقبل العالم الذي نتطلع إليه بتطوير نظمنا التعليمية، حيث إن التعليم والتربية عبر الوسائل المتنوعة هو الذي يحدد مستقبل المجتمعات والدول والأمم.
وشدد على أننا نريد أجيالاً تغالي بالعلم والقراءة وتهجر وتحذر من وسائل تسطيح العقول، وتطلب العلم عبادة لله تعالى، وترى فيه لوناً من ألوان الجهاد في سبيل الله تعالى، ونتطلع إلى تعميق النظر في مفهوم العلم الشامل كما يراه القرآن الكريم، وأن العلماء الذين يخشون الله تعالى ليسوا حفظة القرآن الكريم وعلماء الشريعة فقط، بل هم العلماء الشاملون في علوم الدين والدنيا لإصلاح الدنيا بالدين والعلم.
د. عامر: نريد مناهج التعليم التي تعبر عن شخصية المسلم وتعكس انتماءه للإسلام عقيدة وعبادة وأخلاقاً
وواصل عامر: كما أننا نريد مناهج التعليم التي تعبر عن شخصية المسلم وتعكس انتماءه للإسلام؛ عقيدة وعبادة وشريعة وأخلاقاً وسلوكا وآداباً، ولمجتمعه المسلم إن كان يعيش في مجتمع مسلم، أو في الغرب، ويحرص على سلامة مجتمعه ذلك وأمانه، ويخالق الناس جميعاً بأخلاق حسنة طيبة، ويحب الخير لكل خلق الله، وأيضاً نريد المناهج التي تلائم الزمان والمكان والحال، وتراعي تغير العالم من حولنا، وتأخذ بكل جديد نافع وتترك ما يتعارض مع تعاليم الإسلام وأحكامه.
ويؤكد أننا نريد صناعة المعلم الرباني صاحب الرسالة الذي يحتسب جهده ووقته، ويرى مستقبله في الآخرة مرهوناً بطلابه الذين يغرس فيهم أخلاق الإسلام ومحبة الله وكتبه ورسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، ويحمل راية الحق والعدل في كل مكان، كما نريد من قادة الفكر والرأي ومسؤولي المؤسسات في الشرق والغرب أن يتحرروا من أي ضغط، وأن يواجهوا بشجاعة كل محاولة لسلخ الأمة والأجيال الجديدة عن دينها وهويتها عبر العبث بمناهج التعليم وتغييرها، حيث لم ولن تكف قوى البغي والاستعمار عن تزييف التاريخ وتزوير وعي أجيالنا والعبث بتراثنا؛ إلا أن الأمل في كل حر غيور على عقول وقلوب أولادنا.
وختم عامر بأن الفرق الشاسع بين القراءتين بين من يبتكر ويخترع وينال جوائز «نوبل» وغيرها مجتمعة وهو جاهل بالله تعالى ولقائه، جاحد لنعمة وآلائه، ومن يرى العلم محراباً يتعبد لله تعالى بكل حرف، فيرى الله في غرفة العمليات وعندما يركب غواصة في أعماق البحار وفي الكواكب والنجوم والمجرات الهائلة والأفلاك، فالفرق شاسع بين القراءة التي تفصل الكون عن خالقه، والقراءة والثقافة والفكر والتربية والنظر الذي يرى العلم فيضاً من الله واختبار للنعم ووسيلة إلى مقاصد عالية؛ وهي عمارة الأرض والقيام بحق الخلافة فيها، فجعل مفتاح الحضارة ومفتاح الهداية وطريق البناء والتعليم وبوابة السعادة والسلام الاجتماعي والتحرر من الظلم والظالمين كلها في قوله تعالى: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) (العلق: 1).