الإنسان الفرد هو أساس المجتمع وعماده الأول، ومحور هذا الكون، وأهم لبنة في صرحه الشامخ، وبنيانه السامق، فهو مدني واجتماعي بطبعه، يبدأ حياته بمركب مزدوج؛ أبيه وأمه؛ لذا فالأسرة هي المحضن الأول.
وهو كذلك ابن بيئته وأسرته؛ فهي تؤثر في تكوين سلوكه وأفكاره وقيمه وعاداته ودينه وثقافته ولغته، وهي الأرض الخصبة التي يمكن أن نزرع فيها كل معاني الحب والرحمة والفضيلة في نفوس الناشئة.
كلمة تكتب بماء العين قالها سفيان بن عيينة: «إذا رأيتم الناس قد أجمعوا على مدح رجل فاتهموه، وإذا رأيتم الناس قد أجمعوا على قدح رجل فاتهموه، فإن المؤمن بين مادح وقادح»(1).
من صفحات التاريخ الناصعة البياض صفحة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، داهية زمانه، ونابغة أقرانه، عظيم السجايا كريم العطايا، أحبه أهل السُّنة والجماعة، وأبغضه أهل البدعة والضلالة، فماذا عن صحيفة النسب وبطاقة التعريف به؟
نسجت هند خيوط شخصية معاوية وملامح عظمته ومؤهلات قيادته منذ طفولته
يقول كتاب «السير»: أمير المؤمنين ملك الإسلام أبو عبدالرحمن القرشي الأموي المكي، خال المؤمنين، وكاتب وحي رسول رب العالمين، أسلم فبل أبيه وقت عمرة القضاء، وبقي يخاف من اللحاق بالنبي صلى الله عليه وسلم من أبيه، ولكن ما ظهر إسلامه إلا يوم «الفتح»، كان طويلاً أبيض جميلاً مهيباً أجلح، إذا ضحك انقلبت شفته العليا وأصابته لقوة آخر عمره، وكان من الكَتَبة الحسبة الفقهاء، ويضرب المثل بحلمه وعقله، مكث أميراً على الشام في خلافة عمر، وعثمان، عشرين سنة، ثم خليفة للمسلمين مثلها، توفي بدمشق للنصف من رجب سنة ستين، وصلى عليه الضحاك بن قيس الفهري، وعاش معاوية ثمانية وسبعين عاماً، وقيل غير ذلك رضي الله عنه»(2).
بين التقدير والتقتير
أبو سفيان صخر بن حرب، في الحسب والرأي الأريب، بدر أرومته وعز عشيرته، سيد مطاع في قومه، يسمعون قوله، ويصدرون عن رأيه، وحياته في بيته تدور بين التقدير والتقتير، وصفته زوجته بأنه رجل مسيك أو شحيح، وأنها تصيب من ماله بغير إذنه، فقال لها المعصوم صلى الله عليه وسلم: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف»(3).
وهو سيد في بيته كما كان سيد عشيرته، وأنه شديد الغيرة لا يرفع عصاه عن أهله وكاهله، ومن أبرز ملامح شخصيته التي جعلته جديراً بزعامة قريش الدهاء والحكمة؛ وظهر ذلك في موقفه يوم «بدر» وفراره بالقافلة، والشجاعة والإقدام؛ وظهر ذلك في موقفه يوم «حنين» وعدم فراره من المعركة، ونال شرف الصحبة وشرف المصاهرة، وغفر الله له ما كان منه.
والدهاء والحكمة أعظم موروث ورثه معاوية من أبيه، وقد استطاع بحكمته ودهائه أن يملك قلوب أعدائه قبل أصفيائه، وأصبحت «شعرة معاوية» نهجاً قويماً وطريقاً مستقيماً لكل من سار على منواله.
.. فرجولة الطفل تبدأ من صغره وتشب معه في شبابه وكهولته وهرمه
كلما يممت وجهي ناحية كتب السيرة، لا سيما عند مطالعة بيعة النبي صلى الله عليه وسلم للنساء، يصيبني الدهش والعجب من عقل هند بنت عتبة رضي الله عنها، وسرعة بديهتها، وصفاء قريحتها في الرد على كلام المعصوم صلى الله عليه وسلم، فقد بايعهن على «ألا يشركن بالله شيئاً»، قالت هند: وكيف نطمع أن يقبل منا ما لم يقبله من الرجال؟ «ولا يسرقن»، قالت: والله إني لأصيب الهنة من مال أبي سفيان لا يدري أيحل لي ذلك؟ فقال أبو سفيان: ما أصبت من شيء فيما مضي وفيما غبر هو لك حلال، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفها، فقال لها: «وإنك لهند بنت عتبة؟»، قالت: نعم، فاعف عما سلف يا نبي الله عفا الله عنك.
قال: «ولا يزنين»، قالت هند: وهل تزني الحرة؟ يعنى أنها تعاف الزنى في الأصل أنفة، فلما قال: «ولا يقتلن أولادهن»، قالت: ربيناهم صغاراً وقتلتهم كباراً، وكان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قتل يوم «بدر»؛ فضحك عمر رضي الله عنه حتى استلقى، وتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم(4).
فمن هي التي كان يقول عنها معاوية مفاخراً: «أنا الذي ربتني هند»؟! هي هند بنت عتبة، من عقلاء النساء، ومن أصوبهم رأياً وأقواهم حكمة ورشداً، كانت فصيحة جريئة صاحبة رأي وحزم وجلد وعزم في الجاهلية والإسلام، اتصفت بالجسامة والوسامة والمكانة بين قومها وذويها، فليست من عداد الأمهات المنسيات في الغمار، يبدو ذكاؤها الوقاد وحصافة عقلها في حسن سبرها للرجال، فقد قالت لأبيها عتبة بن ربيعة: يا أبتِ، إني قد ملكت أمري، وذلك حين فارقها الفاكه بن المغيرة، فلا تزوجني رجلاً حتى تعرضه عليَّ، فقال: ذلك لك، أسلمت في «فتح مكة» بعد إسلام زوجها بليلة واحدة.
ما أجمل أن نتدارس مع أبنائنا جوانب العظمة والقيادة ومواطن السيادة والريادة!
التربية على القيادة
قال أبو هريرة رضي الله عنه: رأيت هنداً بمكة كأن وجهها فلقة قمر، وخلفها من عجيزتها مثل الرجل الجالس، ومعها صبي يلعب، فمر رجل فنظر إليه فقال: إني لأرى غلاماً إن عاش ليسودن قومه، فقالت هند: إن لم يسد إلا قومه فأماته الله، وهو معاوية بن أبي سفيان، ونظر أبو سفيان يوماً إلي معاوية وهو غلام فقال لهند: إن ابني هذا لعظيم الرأس، وإنه لخليق أن يسود قومه، فقالت هند: قومه فقط؟! ثكلته إن لم يسد العرب قاطبة(5).
ما أروعها وأعظمها وأفصحها وأعقلها! لقد نسجت خيوط شخصيته وملامح عظمته ومؤهلات قيادته منذ طفولته، فرجولة الطفل تبدأ من صغره، وتشب معه في شبابه وكهولته وهرمه، ومعاوية ورث من جانب أمه أكثر مما ورث من جانب أبيه، فهو أشبه ما يكون بها في الوسامة والجسامة، ربته على القيادة والسيادة، فتحقق قولها وأثمرت تربيتها وساد ولدها، وامتد الحكم الإسلامي في عهده ليطول المشرق والمغرب، وكان يتكلم مرتجلاً؛ فيحسن الجواب في مقامه، والكلام في أوانه، وبلاغته سوية لا تسف عن بلاغة أمثاله ونظرائه، وأما عن الحلم فبابه الأهم وميدانه الأعم، وبه ساس العرب والعجم.
وفي القلب كلمة لا بد أن تقال: ما أجمل أن نتدارس مع أبنائنا جوانب العظمة والقيادة ومواطن السيادة والريادة في هذه الشخصية الثرية صاحبة الفتوحات القوية والإشراقات الندية؛ لينهلوا من معين مائها، وعذب فراتها، وتكون لهم نموذجاً يُحتذى، وأثراً يُقتفى!
__________________________
(1) أرشيف ملتقى أهل الحديث، ج 106، ص 190.
(2) سير أعلام النبلاء (3/ 120).
(3) صحيح مسلم (1714).
(4) البداية والنهاية (6/ 618).
(5) المرجع السابق (11/ 398).