منذ ما يُقارب خمس سنوات، انطلق المهندس المقدسي طارق البكري – 28 عامًا – بمفرده يوثّق بالصور أحوال وتاريخ القرى الفلسطينية المهجّرة عام 1948، يختار في رحلته قرية معيّنة، يصل بيوتها ومرافقها، ويجلس على أطلالها، ثم يلتقط الصور من عدة زوايا.
لقد توصل هذا الشاب إلى أهمية توثيق القرى الفلسطينية المهجّرة، بأسلوب غير تقليدي، قرّر حمل كاميراته الفوتوغرافية، والوصول إلى قرى فلسطينية لا يصل إليها أحد، ثم تطوّر نشاطه أكثر، فقام بالتواصل مع فلسطيني الشتات كي يروا قريتهم بالفيديو كول، ثم أخذ يستقبل فلسطيني أوروبا المغتربين ليصل معهم إلى القرى المهجّرة، فهدفه أن يكون حق العودة حاضراً في النفوس في كل وقت يبتعد فيه الفلسطينيون عن قراهم.
توثيق بالصور
شعور رائع ينتاب البكري عندما يدخل بيتًا قرويًا ما زال رغم سنوات الهجرة يحتفظ بهيكله، يرى المكان المخصص للنوم، وبيت المؤنة، وسلمًا يؤدي إلى سطح البيت الطيني، فهناك أكثر من 530 قرية مهجّرة في الأراضي المحتلة عام 1948، بعضها تم مسحه تمامًا، فيجد البكري بعض الأطلال التي تدل عليها، وقرى مهدّمة جزئيًا، وقرى ما زالت تحتفظ بمرافقها وبيوتها الخالية، وآخرها قرى سكنها اليهود مثل “عين كارم” و”المالحة” أو أنشأوا بجوارها مستوطنات.
يقول البكري وهو حاصل على الهوية المقدسية التي تخوّله التحرك في كل فلسطين التاريخية: إنه بالإضافة إلى كون نشاطه يهدف إلى نشر الثقافة والوعي، إلا أنه ذو هدف إنساني ووطني بالأساس، وتابع القول لـ”المجتمع”: “هناك مبانٍ وعقارات سيطر عليها الاحتلال بحكم قانون حارس أملاك الغائبين، وتوثيق هذه الأملاك بالصور الموثّقة بالمراجع، جعل المتلقي يتمسّك أكثر بالمكان، تلك الأماكن التي أخذ الاحتلال بإطلاق أسماء عبريّة عليها حتى يعتقد الناس أن أصلها ليس عربياً، كما أن العمل له أهمية في دعم الرواية التاريخية لأحقية شعبنا في هذه الأرض”.
لم يكتف البكري بالتصوير، فحرصه الوطني ورؤيته بالعين لجمال فلسطين جعله يلجأ لوسائل أخرى تدعم عمله، كأن يذهب لكبار السن من الفلسطينيين الذين عاصروا النكبة، يذهب لهم في المخيمات، يتحدث إليهم بهدف ربط شهادتهم بالصور والرؤية، كما أنه يعود للصحف والكتب التاريخية.
“ما يطلبه اللاجئون”.
قبل فترة، صاحب البكري فلسطيني لاجئ إلى قريته المهجّرة في أراضي 48، فقد قطع الرجل القادم من أستراليا مسافة 13.500 كيلو متر كي يأتي ويرى بيته في يافا، يعقب البكري على هذا الموقف بالقول: “هذه المواقف تعطيني دافعاً أكثر كي أستمر وأواصل عملي في التوثيق، أشعر أن عليه مسؤولية في توثيق كل شيء يدعم حق العودة”.
نجم الموقف السابق عن طبيعة نشاط البكري، فهو كما يقول يقدم “ما يطلبه اللاجئون”، يذهب لقرية مهجّرة في قضاء القدس، يافا، حيفا، الرملة، يصوّر مساجدها، بيوتها، أسواقها، ثم يعود لنشر الصور على مواقع التواصل الاجتماعي، فيجد أحد المغتربين يعاتبه لأنه لم يصل لقريته المجاورة لهذه القرية أو تلك، يقول: “أشعر بواجب، فأعده بأن أفعل ذلك في المرة القادمة، وأحزن كثيرًا إذا وجدت بيته قد هُدم بسبب التطهير العرقي الذي مارسه الاحتلال ضد الكثير من القرى الفلسطينية”.
تواصل البكري مع لاجئين فلسطينيين يمتلكون صوراً فوتوغرافية قديمة لقراهم ومنازلهم ومرافقهم قبل عام 1948، ثم قام بتحديد المكان وصوره من نفس الزاوية، يقول البكري: “هذا النشاط لا ينحصر على الشق العائلي، بل الحياة الثقافية والتجارية والاجتماعية في فلسطين، فقد كانت فلسطين عامرة من هذه النواحي وهو ما يحاول الاحتلال إثبات عكسه”.
شواهد قبور الشهداء
قبل عامين، وبينما كان البكري يمارس نشاطه الاعتيادي في التوثيق، وفي طريق بحثه عن قرية مهجّرة، مر بأحراش تقع بين مدينتي القدس ويافا، وهناك عثر على شواهد قبور لشهداء الجيش العربي الذين حاربوا ضد الاحتلال في فترة النكبة أو بعدها، عجّل البكري لتصوير شواهد القبور، وتواصل مع ذويهم على أساس تحديد مكان قبور أبنائهم لا أكثر، لكنه تفاجأ أن أحد هؤلاء الشهداء كان بالنسبة لأهله في عداد المفقودين.
ذاك هو الجندي الأردني علي حسن العوران، ابن مدينة الطفيلة، الذي جاء لفلسطين محاربًا وهو في الثامنة عشر من عمره، إذ فُقدت أثاره منذ ذاك الوقت، وبعد 65 سنة وبسبب صورة البكري عرف أهله أنه استشهد ودفن هناك، يقول البكري: “سافرت إلى عشيرة الجندي التي أصرّت على تكريمي، وهناك سأل أحد الصحفيين العشيرة إذا كانت لهم نية بنقل جثمان ابنهم، فرفضوا وقالوا إنه لا فرق بين الأردن وفلسطين، كلها بلد واحد”, وتابع القول: “هذا القول أشعرني أن العودة قريبة، وفتحت هذه القصة لي مجالًا للتركيز على شواهد القبور خلال نشاطي”.