ما علاقة القَدَر بآدم؟
هذه القصة تكشف عن ذلك: فقد سأل موسى ربَّه: «يَا رَبِّ، أَرِنَا آدَمَ الَّذِي أَخْرَجَنَا وَنَفْسَهُ مِنَ الْجَنَّةِ. فَأَرَاهُ اللهُ آدَمَ، فَقَالَ: أَنْتَ أَبُونَا آدَمُ؟ فَقَالَ لَهُ آدَمُ: نَعَمْ. قَالَ: أَنْتَ الَّذِي نَفَخَ اللهُ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ، وَعَلَّمَكَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا وَأَمَرَ الْمَلَائِكَةَ فَسَجَدُوا لَكَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَمَا حَمَلَكَ عَلَى أَنْ أَخْرَجْتَنَا وَنَفْسَكَ مِنَ الْجَنَّةِ؟ فَقَالَ لَهُ آدَمُ: وَمَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا مُوسَى. قَالَ: أَنْتَ نَبِيُّ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِي كَلَّمَكَ اللهُ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ، لَمْ يَجْعَلْ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ رَسُولًا مِنْ خَلْقِهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: أَفَمَا وَجَدْتَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي كِتَابِ اللهِ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فِيمَ تَلُومُنِي فِي شَيْءٍ سَبَقَ مِنَ اللهِ تَعَالَى فِيهِ الْقَضَاءُ قَبْلِي؟
قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: «فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى، فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى» (أخرجه البخاري (3409، 6614)، ومسلم (2652) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه)، كانت حجة آدم أغلب وأقوى.
ولعل قوة الحجة التي قالها آدم مبنية على:
1- أن الكلام كان في أمرٍ مضى وانقضى، ولا سبيل إلى رده، فهي مصيبة وقعت وليس أمام العبد إلا أن يرضى ويسلِّم: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ﴾.
2- أنه ذنب قد تاب منه آدم وأناب وقبل الله توبته، فلا سبيل إلى معاتبته أو توبيخه، وهو بعد التوبة خير منه قبل الذنب، و«عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَه»، وهذا يكون في المصائب، ويكون في الذنوب لمَن تاب منها.
وقد وعد الله مَن صدقت توبته بأن يبدِّل سيئاته حسنات: ﴿إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾.
3- أن الخروج من الجنة وقع لآدم وحواء فحسب، أما موسى وسائر ذرية آدم فلم يكونوا في الجنة أصلًا.
4- أن هبوط آدم إلى الأرض هو المقصود من خلقه: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾، وليس عقابًا محضًا، إنما هو سبب مكتوب، والإهباط إلى الأرض والاستخلاف هو من صنع الله وقدره، وله الحكمة في ذلك.
الإنسان مسئول عن أعماله الإرادية الاختيارية، والظروف والبيئة والجينات وسائر المؤثرات لها اعتبار في تعاظم المسئولية، ولا تلغي التبعة الدنيوية القانونية ولا الأخروية المترتبة على تصرفاته.
ماذا يعني القدر؟
1- علم الله الذي ﴿لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا﴾، ﴿وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾.
فلا مفاجآت، كل دقيق وجليل يمضي وفق العلم الإلهي الشامل المحيط، تستوي في ذلك حركات الأفلاك وتموجات البحار واهتزازات الهواء ونبضات القلوب ومشاعر النفوس وحركات الجوارح.
2- الإذن الإلهي، ﴿وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكُوا﴾، ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ﴾، ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ﴾، ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللهِ﴾، ﴿وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ﴾، ﴿وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ﴾، ﴿وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾، وورد هذا في (26) موضعًا من القرآن الكريم.
الإذن يعني علم الله بما سيحدث، وقدرته على منعه، ومع ذلك يدع العبد يواجه مسئوليته وخياراته ويتحمل تبعاتها.
وحين سأل الصحابة رضي الله عنهم عن القدر المكتوب قال صلى الله عليه وسلم: «اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ» أخرجه البخاري (4949)، ومسلم (2647) من حديث عليٍّ رضي الله عنه.
هذا يعني أن ما هو مكتوب ليس اعتباطًا ولا تعسفًا ولا جبرية، هو انسجام مع إرادة الإنسان واختياره؛ ولذا قرأ صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) سَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) ﴾.
القدر لا يفرض على الإنسان أن يفعل ما لا يريد، ولا أن يترك ما يريد، القدر هو الذي يكشف ما ينويه الإنسان وما يريده.
القدر لا يقهر إرادة العبد، ولا يصادر حريته في الوجهة التي يختارها، المخلوق يحس بأنه كائن مختار، ويتردَّد، ويفكِّر، ثم يحجم أو يقدم، ثَمَّ فرق واضح بين مَن يختار الهبوط من سطح المنزل فيبحث عن الدرج أو المصعد ويستخدمه، وبين آخر قامت مجموعة بحمله قهرًا غير عابئةٍ بصياحه ثم رمته أرضًا!
ولو شاء الله لجبر الناس على الخير: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى﴾، ﴿أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾؟
في قدرة الله أن يجعل آدم مَلَاكًا لا تخطر في باله الشهوة ولا يهم بها، أن تكون المعصية مفردة خارج عالمه، دأبه التسبيح والتقديس، مشيئته سبحانه أن يخلق نَمَطًا آخر غير الملائكة بطبيعة مزدوجة قابلة للخير والشر، مالكة لزمام أمرها.
3- ثُم أن يكون ما علمه الله وأذن به مكتوب عنده في اللوح المحفوظ الذي لا يحيط بجملته وتفصيله إلا هو سبحانه، وهو القضاء الأزلي الإلهي المبرم الذي لا يطرأ عليه تغيير ولا تبديل البتة، وهو ما يعبَّر عنه في القرآن بأم الكتاب، كما في قوله: ﴿يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾.
ولعل المعنى: أن الصحف التي تكتبها الملائكة قد يطرأ عليها تغيير أو تبديل بسبب ما، كالدعاء مثلًا، فإنه «لا يرد القضاء إلا الدعاء»، وكصلة الرحم، فإنها «تزيد في العمر».
قال ابن تيمية: «إن الله يكتب للعبد أجلًا في صحف الملائكة، فإذا وصل رحمه زاد في ذلك المكتوب..» «مجموع الفتاوى» (14/490- 491).
يقول بعضهم عند وقوع ما يكره: هذا مكتوب. ويختلط عنده معنى المكتوب بالمجبور، ولا تلازم بين الكلمتين، فالمكتوب معلومٌ مدوَّن، وليس قسرًا ولا إجبارًا.
4 – ثم الله خالق كل شيء: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾، فلا خالق على الحقيقة سواه، وهو خالق العباد، وأفعال العباد.
ثَمَّ مقدارٌ من البحث في أمر القَدَر الإلهي لا يحيط به إلا الله، ولا سبيل للعباد إلى كشف كُنهه، ولذا يُذم الخوض المتجاوز للحد في القدر.
المفهوم الإيجابي للقدر أنه يمنحنا الشجاعة والقوة في مواجهة الأزمات والمصائب، ويعيننا أن نعمل وفق طبيعتنا بحماس وأمل، مع وجود الجاهزية لقبول النتائج العكسية.
أنه يهدِّئ من مخاوفنا تجاه المستقبل، فالله خَيرٌ حافظًا وهو أرحم الراحمين.
أنه يسكب في قلوبنا الصبر والرضا حين نكون أمام واقع مؤلم محتوم لا مفر لنا منه.
القدر هو الرضا والتسليم والإيمان بأننا نصنع أقدارنا بإذن الله، كما قال عمر رضي الله عنه: «نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللهِ إِلَى قَدَرِ اللهِ» أخرجه البخاري (5729)، ومسلم (2219).
والله يحب المؤمن القوي الحريص غير العاجز، والذي إذا وقع القدر على خلاف ما يريد لم يشغل نفسه بـ(لو)، ولكن يقول: قَدَّر الله وما شاء فعل.
نريد من الله تدخلًا مباشرًا يقلب الموازين ويغيِّر اتجاه القضايا ونتائجها، ويريد آخرون من خلق الله عكس ما نريد، ويدعون بضد ما ندعو، ونعجل ويعجلون، والله لا يعجل، ولا يغيِّر سنته وناموسه: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾.