13 فبراير 2025

|

الصليبيون يستغيثون بالغرب

د. علي الصلابي

03 سبتمبر 2024

3533

ما كاد القتال ينتهي في حطِّين، وتتحقَّق خسارة الصَّليبيين؛ حتى أسرعت الرُّسل إلى غرب أوروبا لإعلام ملوك أوروبا، وأمرائها بما آلت إليه أوضاع الصَّليبيين في الشرق، ولم يلبث أن اقتفى أثرهم رسلٌ آخرون عقب فتح بيت المقدس.

والواقع أنَّ تلك الخسارة، وهذا الفتح أحدث ردَّ فعل عنيفاً في المجتمع الغربي؛ الذي ذُعر لنبأ الكارثتين، واعتقد النَّصارى في الغرب بأنهما جاءتا نتيجة إهمالهم في عدم الاستجابة للاستغاثات المتكرِّرة؛ التي جاءت من مملكة بيت المقدس في السَّنوات الأخيرة، وأدرك من اجتمع في مدينة صور من الصَّليبيين أنَّه ما لم تصلهم نجدة من الغرب، فإن فرص الاحتفاظ بصور ستتضاءل بعد أن ضاع كلُّ أملٍ في استعادة المناطق التي فقدوها.

ولم يلبث كونراد دي مونتفيرات أن أرسل جوسياس، رئيس أساقفة صور، إلى غرب أوروبا في منتصف عام 583هـ، وآخر صيف عام 1187م، ليطلب من البابا، وملوك أوروبا، وأمرائها النَّجدة العاجلة.

وصل جوسياس إلى صقلية، واجتمع بملكها وليم الثاني الذي استجاب لهذه الدَّعوة بعدما راعه ما سمعه من جوسياس من أنباء الكارثة التي حلَّتْ بالصليبيين في الشرق، ولما كان في حالة حرب مع بيزنطية؛ فقد عقد صلحاً مع الإمبراطور البيزنطي إسحاق أنجيلوس، في المحرم 584هـ/ مارس 1188م ليتفرغ للقضية الصليبية، ثم أرسل أسطولاً يحمل بضع مئات من الفرسان إلى طرابلس بقيادة أمير البحر الصِّقلِّي مرجريت البرنديزي، وقد نجح في منع صلاح الدين من فتح طرابلس (تاريخ الأيوبيين في مصر وبلاد الشام والجزيرة، محمد طقوش، ص 176).

ثم انتقل جوسياس من صقلية إلى روما، ترافقه بعثة صقلية ليشرح للبابا أوربان الثالث حقيقة وضع الصليبيين في بلاد الشام، فلم يتحمَّل البابا الصَّدمة، وتوفي كمداً في 14 شعبان 583هـ/ أكتوبر 1187م على أنَّ خليفته جريجوري الثامن بادر على الفور بالاتصال بملكي إنجلترا، وفرنسا، وإمبراطور ألمانيا يستحثُّهم على أن يتناسوا ما بينهم من خلافات، ويُعبِّئوا قواهم لمحاربة المسلمين، وإذا كان البابا جريجوري الثامن قد توفي هو الآخر في 13 شوال/ 17 ديسمبر قبل أن يرى ثمرة جهوده، فإن خليفته كليمنت الثالث (583 - 587هـ/ 1187 - 1191م) أسرع بالاتصال بالإمبراطور الألماني فريدريك الأول بربروسا، وأقنعه بالاشتراك في حملة صليبية تتَّجه إلى الشرق، وحدث هذا في الوقت الذي انتقل فيه جوسياس إلى الغرب لمقابلة ملكي فرنسا وإنجلترا فيليب أغسطس، وهنري الثاني، واجتمع بهما في جيزورز على الحدود بين نور منديا، وفرنسا، وأقنعهما بتناسي خلافاتهما التي كانت حادةً، وشجَّعهما على عقد الصُّلح، والاشتراك معاً في حملة صليبية.

ومع ذلك، فإنهما تباطأا في التَّنفيذ، وتجدَّدت الحرب بينهما، ثم توفي هنري الثاني ملك إنجلترا في عام 585هـ/1189م، وخلفه ابنه ريتشارد قلب الأسد دوق بواتو، فعقد صلحاً مع الملك الفرنسي، وتجهَّز للقيام معه بحملةٍ مشتركة إلى الشرق (صلاح الدين، علي الصلابي، ص473).

ويتَّضح دور رجال الدِّين المسيحي في الأزمات من خلال ما قام به جوسياس، والبابا، وهنا نستخلص درساً مهماً وهو: على العلماء، والفقهاء، والدُّعاة، والمفكِّرين، والأدباء، والسَّاسة من أمتنا تجاوز مرحلة الشعور بالحسرة، والحوقلة في الملمَّات، والنَّكبات التي تمرُّ بها الأمة، والسعي الدؤوب للعمل الصَّحيح؛ الذي يحبُّه الله، ورسوله من توظيف المهارات القيادية، والقدرة على الإقناع، وحسن التَّخطيط، وتقديم رؤية حضارية نهضوية.. إلخ من أجل إعزاز دين الله تعالى، والتصدِّي للغزاة.

قدم الصليبيون إلى بلاد الشام بأعدادٍ كبيرة لا تُحصى، يدلُّنا على ذلك الرِّسالة التي بعث بها صلاح الدين إلى الخليفة العباسي في بغداد في عام 586هـ/ 1190م يخبره بذلك، التي قال فيها: وقد بُلي الإسلام منهم بقومٍ قد استطابوا الموت، واستجابوا للصَّوت، وفارقوا المحبين، والأوطان، وهجروا المألوفين، والأهل والدِّيار، وركبوا اللُّجج، ووهبوا المهج، كلُّ ذلك طاعةً لقسِّيسهم، وخرج المسيحيُّون على اختلاف فئاتهم، وأجناسهم، ومن عجز عن الخروج بنفسه جهز بعدَّته، وثروته مَنْ يقدر على السَّفر.

وخرجت النساء للإسهام في الحملة الصليبية الثالثة، فمنهنَّ من خرجن وبصحبتهن الفرسان، وقد تكفَّلن بجميع ما يحتاجون إليه من مؤنٍ، وعتاد؛ وعلى سبيل المثال، ذكر أبو شامة، وغيره: أنه في عام 585هـ /1189م وصل في البحر إلى بلاد الشام امرأةٌ مسيحية جليلة القدر، وفي صحبتها 500 فارس بخيولهم، وأتباعهم، وقد تكفَّلت بكلِّ ما يحتاجون إليه، فهم يركبون لركوبها، ويحملون لحملاتها، ويثبون لوثباتها، ومنهنَّ من خرج وقد لبسن الدُّروع، وكن في زي الرِّجال للاشتراك في المعارك بأنفسهنَّ لاعتقادهن أنَّ عملهن ذلك عبادة، ومنهنَّ من خرج لإسعاف الغرباء، وإسعاد الصَّليبيين بستبيل أنفسهن لهم للاستمتاع بهنَّ حتى لا يتسرب الملل إلى نفوس المحاربين. (صلاح الدين والصليبيون، عبدالله الغامدي، ص238).

وأما وليم الثاني ملك صقلية فقد بادر بإرسال أسطول في عام 585هـ /1189 م يشتمل على ستين قطعةٍ، بها عشرة آلاف مقاتل، وأسند قيادته إلى رجلٍ من رجال البحر يدعى «المرغريط»، فأبحر ذلك الأسطول إلى مدينة صور ثمَّ رجع إلى طرابلس، ولم ينفع الصليبيين بشيءٍ؛ لأنه ما به من الميرة لم تكن تكفي ما عليه من الرجال. (مفرج الكروب، جمال بن واصل م2، ص558).

       

___________________________

1- تاريخ الأيوبيين في مصر وبلاد الشام والجزيرة، محمد سهيل طقوش، دار النفائس، الطبعة الأولى، لبنان 1400هـ/ 1999م.

2- صلاح الدين والصليبيون استرداد بيت المقدس، عبدالله سعيد محمد الغامدي، دار الفضيلة بيروت، لبنان 1405هـ/ 1985م.

3- صلاح الدين، على الصلابي، دار ابن كثير، بيروت، ط1، 2009م.

4- مفرج الكروب في أخبار بني أيوب، جمال الدين محمد بن سالم بن واصل.


تابعنا

أحدث المقالات

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة