05 فبراير 2025

|

حين تكون الشهادة ميلاداً.. «المجتمع» تحاور عائلة الشهيد محمد الضيف

ياسمين عنبر

05 فبراير 2025

63

على فرشة بسيطة أكلت أيام الحرب أطرافها، تجلس الغزية غدير صيام، بجانبها أطفال يستخدمون أسماءهم الحقيقية للمرة الأولى، رغم أن أعمارهم قد تجاوزت الثانية عشرة! عيونها تحمل حكاية كتمت تفاصيلها منذ اليوم الأول الذي ارتبطت به بمقاوم طاردته «إسرائيل» 30 عامًا!

هو المجاهد محمد المصري، القائد العام لـ«كتائب الشهيد عز الدين القسام»، الذي عرف لمدة 30 عامًا بمحمد الضيف، من مواليد مخيم خان يونس جنوب قطاع غزة عام 1965م، هجرت عائلته من بلدة القبيبة إلى غزة عام 1948م.

على مقاعد الدراسة في مدارس «الأونروا»، تلقى الضيف تعليمه، وبين أروقة الجامعة الإسلامية درس في علم الأحياء وتخرج فيها طالبًا نجيبًا.

ولأن الاحتلال كان يضيق العيش على الفلسطينيين، اضطر الضيف مرارًا ترك دراسته والعمل مع أبيه في صناعة الغزل وتنجيد المفروشات، نظرًا لحياة المخيمات القاسية التي عاشها كل من ذاق التشريد والتهجير القسري، ثم أسس بالتوازي مع دراسته مزرعة دواجن صغيرة، قبل أن يكرس حياته لحلم وحيد في قلبه!

«استعادة القدس» حلم الضيف الذي استهلت به زوجته الحديث، في حوار لـ«المجتمع»، تقول: عاش حياته زاهدًا بسيطًا إلا في أحلامه، فقد كان طموحًا وبين عينيه حلم استعادة القدس الذي أفنى حياته لأجله.

بفخر كبير وحزن كذلك باديين على صوتها بسبب رحيل رفيق دربها، تقول أم خالد لـ«المجتمع»: «الآن فقط يمكنني أن أفخر بلقبي أم خالد وأن يناديني به الناس، بعد أن أكرم الله بزوجي بالشهادة».

زفاف أسطوري!

تستذكر غدير البدايات الجميلة التي تغيرت بها حياتها، حين ذهب محمد الضيف إلى والدتها المجاهدة المناضلة فاطمة الحلبي التي كانت تساعد المقاومين في توصيل السلاح والرسائل قديمًا، وذلك عام 1998م حين كان يريد أن يأخذ بارودة كان أخوها يخبئها عند والدته.

تزوج من غدير عام 2001م بحفل زفاف سري يجمع العائلة الضيقة فقط، لتبدأ غدير حياة «معقدة أمنيًا» كما تصفها، بسبب ملاحقة المحتل له حتى أصبح المطلوب الأول لدى الاحتلال.

لم يكن الضيف يمتلك سوى ألف دولار كمهر يقدمه لزوجته، وغابت مراسم الاحتفال كافة، وحين قدم له الشيخ أحمد ياسين مبلغًا من المال كهدية لزواجه تبرع به للمقاومين في «كتائب القسام» زهدًا في الحياة وبهرجها، كما أهداه الشيخ صلاح شحادة غرفة نوم فتبرع بها لشاب حتى يستطيع إتمام زواجه.

ومنذ ارتباطهما لم يكن لها بيت تستقر فيه، فقد كانت له سندًا وواجهت صعوبات كثيرة كالتنقل من بيت لآخر، وتعصيب عينيها، ونقلها من سيارة إلى أخرى، ومن منطقة إلى ثانية، كي تتمكن من رؤية زوجها، وإخبار الجميع من حولها أن زوجها مغترب لذلك هي الأب والأم لأطفالها، ورغم تلك البساطة والزهد الكبير الذي انتهجه الضيف في مراسم زواجه، فإنها تصفه بحسب مكانته في قلبها «الزفاف الأسطوري» لارتباطها برجل عظيم كالضيف.

وفي لمسة وفاء له، ألحت عليه زوجته غدير عام 2007م الزواج من امرأة أخرى؛ لأنه لم يكتب لها الإنجاب، فتزوج من امرأة أخرى حتى يكون له أثر طيب وذرية صالحة حين ينال الشهادة، لتفاجأ من جبر الله أن غدير رزقت بثلاثة توائم.

اقرأ أيضاً: من القسام إلى الضيف.. إنا نقدم قبل الجند قادتنا

الضيف أبًا

وإلى آخر لقاء الضيف بهم عادت ذاكرة أم خالد، إلى آخر وصاياه وضحكاته أيضًا، فقد كان لقاؤه الأخير بهم يوم السادس من أكتوبر؛ أي ما قبل عملية «طوفان الأقصى» بيوم، فجاء إليهم وقضى معهم يومًا يتحدث معهم ويوصيهم على أمهم. 

خالد الابن البكر الذي كان يتحدث بفخر كبير قال لـ«المجتمع»: أوصاني أبي يومها أن أهتم بدراستي، وأن أحفظ القرآن وأدرسه، وليس فقط أحفظه، أي أن أكون واحدًا من المدرسين له ولتفسيره.

كما أخبرهم أن الشهادة ليست نهاية، بل بداية لمسيرة جديدة، وأن الشهادة ميلاد وليس بموت.

ويضيف خالد أن وصية والده أن يكونوا على درب الشهداء والتحرير عز الدين القسام، والشيخ المؤسس أحمد ياسين، ود. عبدالعزيز الرنتيسي، والقائد إسماعيل هنية، والقائد يحيى السنوار، والشيخ صالح العاروري.

ولأن كل فتاة بأبيها معجبة، كان عذب الحديث مع حليمة الفخورة والمعجبة بأبيها الذي أرعب المحتل لمدة 30 عامًا، لتبدأ بحديثها باسمها الذي تحب ولم تكن تستطيع القول به: «أنا حليمة محمد الضيف».

فرغم بعده الجسدي عنهم، فإن حليمة كانت تنبهر من إحساس وحدس أبيها بهم، فبمجرد مرض أحدهم لا سيما حليمة يكون قد شعر بمرضه ومرض في ذات الوقت وجاء لرؤيته سرًا.

تقول ابنته حليمة التي أسماها على اسم أمه الحاملة لكل حكايا القبيبة وذكرياتها: اجتمع في قلب أبي عطاء الأب وحماسة المجاهد، وكان هينًا علينا شديدًا على أعداء الله، وكنا نشعر رغم غيابه المتواصل عنا أن روحنا معه لا تفارقه من شدة تعلقه بنا، وقاطعتها أمها قائلة: أبو خالد أيقونة الشعب الفلسطيني صادقًا شجاعًا مقدامًا، والوطن أولوية حياته رغم حبه الكبير لأبنائه.

حياة مستهدفة

كانت حياة التخفي لعائلتها قاسية جدًا كما تصفها، كونهم في أعلى هرم أهداف الاحتلال «الإسرائيلي»، لكنها تهون حين يكون هناك هدف أسمى في الحياة، وهي أن يكون لهم سهم في تحرير القدس والمسجد الأقصى.

عام 2014م، استهدف المحتل الغاشم عائلته بقصف بيتهم، واستشهدت على إثره زوجته الثانية وداد عصفورة وطفلان من أطفالهما، فلمدة 30 عاماً كانت تلاحق «إسرائيل» الضيف وعائلته، وفشلت أكثر من 7 مرات في اغتياله.

محاولات اغتيال كثيرة تعرض لها الضيف، أصيب باثنتين منها؛ الأولى: فقد عينه اليسرى فاضطرت غدير أن تتعلم التمريض كي تطببه وتعطيه الحقن اللازمة لشفائه، والثانية: أصيب بحروق شديدة وكسور في الظهر تسببت في عدم مشيه لفترة طويلة.

كان أصعب شيء واجهته عائلته في حياة التخفي إخفاء أسمائهم واستخدام أطفالهم لأسماء وهمية، فقد كانت معروفة بين الناس باسم منى حمدان وكنيتها أم فوزي، ولم يكن من الممكن أن يحصل أبناؤهما على اسم يدل على هوية والدهم، فابنهم الكبير خالد كان معروفًا باسم منصور حمدان.

وبعيدًا عن بيوت الدنيا وقصور المشهورين، عاشت أم خالد وأبناؤها في بيت بسيط تصفه بكلمتين فقط: 4 فرشات وحصيرة قبل الحرب وبعده، تبتسم وتقول: ليس كما تروج الروايات «الإسرائيلية» للعالم أن عوائل القادة يعيشون في بيوت فارهة.

وكما لاحظ الجميع الحياة البسيطة التي تعيشها عائلته، فقد لاحظت أم خالد هذا الاستغراب الكبير لدى كل من يزورها لعمل لقاء صحفي، تقول: عشنا مع مليوني غزاوي حياة الجوع والتعب والنزوح والقصف والجوع.

تختم غدير حديثها أنها حزينة لفراق رجل فلسطين الأول، إلا أنها تشعر بالسعادة أن الضيف نال ما تمناه وما أفنى حياته لأجله، ورحل شهيدًا تاركًا للأمة الإسلامية خطة جهادية لتحرير فلسطين باثًا في قلوبهم العزيمة والإرادة لاستعادة القدس.


الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة