هل يتحقق حلم العودة إلى فلسطين؟!
الشعوب يمكن أن تحول تجاربها التاريخية إلى مصدر للقوة، وإن أردت برهانًا نظريًا وعمليًا على صحة ذلك، يمكنك أن تتأمل مشهد شعب فلسطين، وهو يعود من جنوب غزة إلى شمالها عبر طريق صلاح الدين، فالمشهد يحمل الكثير من الرسائل للعالم، ويوضح لكل الأحرار أن الشعوب يمكن أن تحقق حلمها، وتحوله إلى حقيقة، عندما تقاوم وتطلق لخيالها العنان.
والإنسانية كلها كانت تحتاج إلى ذلك المشهد، لتعيد التفكير في واقعها الذي فرضه الاستعمار الثقافي الغربي، والذي يقوم على الحسابات العقلية المادية التي جعلت الإنسان أسيرًا للخوف من القوة الغاشمة، ويمكن أن تتعلم الشعوب المظلومة الكثير من الدروس من ذلك المشهد فتنطلق لتبني مستقبلها، وتحرر نفسها من الخوف من القوة الغاشمة.
الصمود يغير الواقع
من أهم الرسائل التي وجهها شعب فلسطين في طريق عودته إلى بيوته المدمرة في شمال غزة، أن التاريخ يقوم بدوره في بناء قوة الشخصية الحضارية للشعوب، التي يمكن أن تستمد من تاريخها القوة لتغيير الواقع.
إن بناء الشخصية الحضارية يمكن أن يشكل أهم الانتصارات التي تحققها الأمم، وهذه الشخصية تقوم على الدين والثقافة والحضارة والتاريخ والقيم، ومن المؤكد أن الإسلام هو الذي صنع تلك الشخصية القوية الأبية، التي تمسكت بالبقاء على أرض ألقى عليها العدو «الإسرائيلي» ما يعادل أو يزيد على 3 قنابل نووية حولت العمران إلى دمار!
كان العدو «الإسرائيلي» المغرور بقوته الغاشمة يعتقد أنه سيجبر أهل غزة على الرحيل في نكبة جديدة، كتلك التي ذاق مراراتها عام 1948م، وأنه يمكن أن يفضل الحصول على متع الحياة الدنيا في المنافي، فيقوم العدو «الإسرائيلي» بتطبيق خطة الجنرالات بتحويل غزة إلى مستوطنات تشكل توسعًا لدولة الاحتلال، وتجمعات سكنية ينعم فيها المستوطنون «الإسرائيليون» بالرفاهية على شاطئ بحر غزة.
إرادة الشعب يصنعها الإسلام
في ضوء مشهد عودة الشعب الفلسطيني، يمكن أن نطور علوماً جديدة، مثل دور الإسلام في بناء الشخصية الحضارية، فمن المؤكد أن ذلك المشهد كان نتيجة لعقيدة رسخت في القلوب، بأن الله سوف ينصر عباده المؤمنين، الذين تعلقت قلوبهم برحمته وقوته وقدرته وعزته وحكمته.
كما كان المشهد نتيجة لثقافة جعلت هذا الشعب يمتاز عن شعوب العالم بثقته في نصر الله، وقدرته على التضحية بكل متع الحياة لتحقيق حلم عظيم، وهدف أهم من الحياة.
خلال 470 يومًا، قدم هذا الشعب أكثر من 60 ألفاً من الشهداء، وأكثر من 120 ألفًا من الجرحى الذين لم يجدوا علاجًا بعد أن دمر جيش الاحتلال المستشفيات، وعانى من التجويع وانقطاع كل الخدمات، لكنه تمكن بصموده وإبائه من الثبات على أرضه، وإفشال مخطط التهجير القسري، ثم عاد مشيًا على الأقدام، فوجد في الطريق الكثير من الحفر التي حفرتها الجرافات «الإسرائيلية» لتمنعه من العودة، فأقام على تلك الحفر جسورًا ليعبر عليها، وتلك رسالة جديدة تحمل الكثير من المعاني والدلالات.
إنها بداية تحقيق الحلم
هذا الشعب يقول للعالم: إن عودته إلى شمال غزة مجرد بداية لتحقيق حلمه العظيم بالعودة إلى كل فلسطين بعد تحريرها.. هل يمكن تحقيق هذا الحلم؟!
الواقعيون المتغربون الماديون لا ترى عيونهم سوى قوة جيش الاحتلال المادية، لكن ها هو جيش الاحتلال أسرف في استخدامها فارتكب جريمة ضد الإنسانية والحضارة، ودمر العمران في غزة، ومع ذلك يعود الشعب إلى أطلال منازله ليبقى ويعيش ويقاوم ويعمّر ويتحدى القوة الغاشمة، وليؤكد مساندته للمقاومة التي تنتمي له، وتعبر عن حلمه، وتكافح لتحقيقه.
ويستعد الآلاف من الشباب للقيام بدورهم في الجهاد المستمر حتى يتم تحقيق النصر وتحرير فلسطين والعودة.
الحلم وقوة الخيال
تعرض شعب فلسطين لتهجير قسري عام 1948م، فلم يكن أمامه سوى الرحيل أو الموت، بعد أن نفدت ذخيرة أبطال المقاومة، ولم تعد تجدي أسلحتهم العتيقة نفعًا في مواجهة الأسلحة الحديثة، التي قدمها الجيش البريطاني للعصابات الصهيونية، وتلك التي حصلوا عليها من الدول الأوروبية التي اعتبرت أن إنشاء دولة الاحتلال «الإسرائيلي» يشكل أهم انتصارات المشروع الاستعماري، وأهم إنجازاته.
تلك كانت مأساة العصر التي شاهدها العالم، فتخلى عن المبادئ والضمير والإنسانية والحضارة، وعلق المحتلون الغاصبون الذين استولوا على بيوت الفلسطينيين وأرضهم آمالهم على أن الكبار سيموتون، والصغار سينسون، وبذلك ستمر الجريمة ضد الإنسانية دون عقاب، لكن مشهد الشعب الفلسطيني وهو يعود من جنوب غزة إلى شمالها يثبت أن الأجيال الجديدة حملت الحلم الذي رسخ في القلوب والضمائر، وأطلق الخيال لتبتكر العقول الوسائل والأسلحة لتحقيقه.
الأجيال الجديدة تقود ثورة عقول
حمل الكبار مفاتيح بيوتهم، التي شكلت رموزًا ثورية لحلم يأبى أن ينكسر رغم مرور السنين، وورث الأبناء تلك المفاتيح، فشكلوا ثقافة التحرير والعودة التي تنطلق من الإسلام دينًا وعقيدة وحضارة وتاريخًا، وهذه الثقافة شكلت ثورة عقول تحدت الواقع وابتكرت أسلحة جديدة لا تكافئ قوة العدو، لكنها يمكن أن تثخن فيه وتهدد وجوده.
وأبدعت عقول المقاومين الأحرار في التخطيط، فكانت «طوفان الأقصى»، التي شكلت مفاجأة أدت إلى انهيار الحالة النفسية للمحتلين المغتصبين، فهجر المستوطنون في غلاف غزة بيوتهم ورحلوا، ولم يفلح جيش الاحتلال في إعادتهم؛ لأنهم يدركون أن حياتهم أغلى من بيوت وأراض اغتصبوها.
مقارنة تثير الخيال
في الوقت الذي يرفض فيه المستوطنون «الإسرائيليون» العودة إلى مستوطنات غلاف غزة، تتدفق جموع الفلسطينيين العائدين من جنوب غزة إلى بيوتهم المدمرة في شمالها، وهم يؤكدون بذلك أن أرض فلسطين كلها لهم ورثوها عن أجدادهم، وهم بذلك يقدمون مفهوماً جديداً للوطن، فهو حضارة وثقافة وتاريخ أقامتها أجيال على الأرض التي يحمل ظهرها شواهدهم الحضارية وإنجازاتهم التاريخية، ويحتضن باطنها رفات أجدادهم، ولذلك فدليل الوطنية هو الدفاع عن الأرض والحضارة في مواجهة أي احتلال وطغيان، والتضحية بالنفس من أجل تحريرها، والتمسك بهويتها، والأرض ترتبط بشعب يقيم اجتماعًا وعمرانًا وثقافة وحضارة، فهي ملك الأجيال السابقة واللاحقة لا يمكن التفريط في ذرة من ترابه، وهو يشكل أساس الحلم وهدف الحياة، لذلك ترتبط الأرض بالدين والحضارة والثقافة والتاريخ.
لذلك سيتحقق الحلم
في ضوء المشهد يمكن أن نطلق بصائرنا لنكتشف المستقبل، فهذا الشعب يصر على تحقيق حلمه مهما كانت التضحيات، وهو يفخر بالمقاومة التي خططت لـ«طوفان الأقصى»، وهذا الفخر يشكل مصدر قوة للمقاومة التي تستطيع أن تجذب الشباب لتقوم بتأهيلهم ليواصلوا رحلة الكفاح، والقيادة تعبر عن حلم الأمة في تحرير فلسطين، لذلك أصبح قادة المقاومة رموزاً للحلم والأمل.
هكذا غزة تؤكد حق الشعب في العودة، وتؤكد أن الحلم سيتحقق، وأن زمن العودة اقترب، وأن العائدين إلى الشمال سيواصلون الطريق نحو القدس، وسيثير المشهد خيال ملايين المسلمين الحالمين بالحرية والعدل وتحرير الأوطان والإنسان، وربما تكون العودة شاملة للإسلام حياة وعقيدة وعبادة وحضارة وثقافة.