الإعجاب بالبادية.. بين ابن خلدون ومؤنس

يرى د. حسين
مؤنس أن ابن خلدون معجب بالبداوة، ويعدّها مجمعًا لعدد من أكبر الفضائل الإنسانية،
فيقول: «البدو أقرب إلى الخير من أهل الحضر، وإن البادية أصل العمران، والأمصار
مدد لها»، وفي ذات الوقت يحمل على الحضارة في كتابه كله، ويرى أنها تضعف من يملك
أسبابها، ويستسلم لنعيمها، فتفسد الحضارة طبعه، ويستولي عليه الترف، فيفسد ويضمحل.
وهذا خطأ أساسي
عند ابن خلدون؛ فإن التحضر لا يضعف الفرد أو الجماعة، بل يقويهما، فالحضارة علم
وخبرة وتجارب، أما الذي يضعف البشر فهو سوء استخدامهم نعم الحضارة؛ لعجزهم عن
السيطرة على أدوات الحضارة، وسيطرتها هي عليهم، والترف ليس فسادًا، بل هو في
الأساس استمتاع بخيرات الحياة تتوق إليه النفوس(1).
والذي يبدو لي
أن دعوى إعجاب ابن خلدون بالبداوة وذمّه الحضارة مبالغ فيها، وإن وجدت نُقول عند
ابن خلدون يُفهم منها ذلك، فلا بد أن توضع في سياق تناوله الكلي للموضوع، حيث نجد
عنده نقولاً أخرى تنتقص من البداوة؛ وتعلي جانب الحضارة.
وإذا كان د.
مؤنس يستدل على تفضيل ابن خلدون البداوة ببعض عناوين فصوله، مثل: فصل في أن أهل
البدو أقرب إلى الخير من أهل الحضر (المقدمة فصل 4 باب 2)، فصل في أن أهل البدو
أقرب إلى الشجاعة من أهل الحضر (فصل 5 باب 2)، فإننا نجد عنده عناوين فصول أخرى
تؤكد ذمَّه بعض حالات البداوة، وانتقاصه شأنها، مثل: فصل في أن العرب (ويعني بهم
البدو) إذا تغلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب (فصل 26 باب 2)، و فصل في أن العرب
أبعد الأمم عن سياسة الملك (فصل 28 باب 2).
ويرى (تاريخه 1/
127) أن البدو بعيدون عن التعليم والآداب، ويراهم عاجزين عما هو فوق الضروري في
أحوالهم، بينما هل الحاضرة معتنون بالكمال في أحوالهم وعوائدهم (1/ 122)، ويذكر أن
للحضارة تهذيبًا لأصحابها (1/ 246)، ويتحدث (1/ 401) عن رسوخ الصنائع في مواطن
الحضارة، وازدهار العلوم بها، وأنها -أي العلوم- إنما تكثر حيث يكثر العمران وتعظم
الحضارة (1/ 434).
فالأمر إذن ليس
أمر مديح أو مذمة مطلقَين، ومن المنطقي أن في كل من البداوة والحضارة ميزات
وعيوبًا، وفي حال الرؤية المتكاملة -التي حاول ابن خلدون الوصول إليها- ذكر بعض
فضائل البداوة وعلى رأسها سلامة البناء الأخلاقي غالبًا، حيث لم يداخله تلوّن
أبناء الحواضر، وبُعد أغوارهم، بينما ذكر أبرز ميزات الحضارة، مثل العناية بالعلوم
واستحكام الصنائع وتهذيب الطباع، وهي أمور تنقص البادية، لكن وجودها في الأمم
المتحضرة مرتبط بوجود السلطة القاهرة، والنظم المستقرة التي تقلل من حرية الإنسان،
وتقيد فرديته وسَوْرة بأسه، وهذه الفردية وسَوْرة البأس هي أبرز ما يميز البدوي.
يقول ابن خلدون
(1/ 127): «ثم صار الشرع علمًا وصناعة يؤخذ بالتعليم والتأديب، ورجع الناس إلى
الحضارة، وخلق الانقياد إلى الأحكام، فنقصت بذلك سَوْرة البأس فيهم"، وعلى
هذا فإن رؤيته للبادية والحضر رؤية فيها كثير من التوازن، وتنبع من رغبة في الفهم
والتحليل، وليس من انطباعات نفسية متسرعة تمدح أو تذم».
بل نقول: إن
إعجاب ابن خلدون بالبادية -إن صح إطلاقه، وهو لا يصح- أقل وأدنى من إعجاب د. مؤنس
بها، فانظر إليه يقول (كتاب «الحضارة»، ص159): «وقد امتاز البدو دائمًا بالذكاء،
وسرعة الخاطر، وحسن التصرف، والحكمة؛ لأن أي تصرف غير حكيم قد يودي بحياة القبيلة،
ومن هنا جاءت الحقيقة المعروفة التي تقول: إن البدوي من أعقل جماعات البشر، ونظامه
الاجتماعي والسياسي من أبعد النظم عن الفساد وآفاته».
فهو هنا لا
يمتدح البدو فقط، بل نظامهم الاجتماعي والسياسي أيضًا، ويقول (ص158): إن النظام
السياسي فيها يعتمد على القبيلة التي حلت محل الدولة، «وهو ليس بنظام بدائي، ولكنه
نظام كغيره، فالقبيلة وحدة سياسية واجتماعية تقدم لأبنائها الأساسَ مما تقدمه
الحكومات، بل هي تقدم هذا الأساس بصورة أفضل، فأفراد القبيلة متساوون، حقوقهم
وقيمهم الإنسانية محفوظة، وهناك قانون قبلي يطبق بصرامة، ورئيس القبيلة ليس حاكمًا
مفروضًا بل رئيسًا مختارًا، لأنه يعتمد في قوته على رضا أفراد قبيلته عنه، وقلما
يدخل الظلم حياة القبيلة، ومن ثم فإن الإنسان ينمو في أعطافها حرًّا سليمًا كريمًا
على نفسه وعلى غيره».
ويرى (ص157-158)
أن حياة البدو ليست حياة بدائية، وأن الدافع إلى لجوء هؤلاء إلى الصحاري هو الفرار
من ظلم الحكام، والخضوع للنظم العاتية في بلاد الخصب والمرعى.
أما القول بكون
البدو ضحايا ظلم الحكام الذين اضطروهم إلى الاعتصام بالصحراء؛ ففيه تعسف ومجازفة،
بدليل استمرار حياة البادية حتى في ظل أعدل الحكومات طُرًّا زمن النبوة والراشدين،
وهي ديمومة تاريخية في شتى العصور والبيئات بغض النظر عن عدل الحكومات أو ظلمها،
فهم جماعات اضطرها شظف العيش إلى الصحراء؛ التماسًا لسبل الحياة، ثم ألِفوها شيئًا
إثر شيء، ثم صارت عادة يصعب فراقها، وتحضرنا وقائع عدة اختار أصحابها التبدي عن
التحضر، وقد قال الشاعر القطامي يعلي شأن البادية في مقابل الحضر:
فمن تكن الحضارة
أعجبته فأي رجال بادية ترانا
وقد نسبت أبيات
شعر إلى ميسون بنت بحدل الكلبية زوج معاوية بن أبي سفيان -ولا تثبت صحتها- وهي
تؤثر حياة البادية الجافية على رغد العيش في قصر الخليفة:
لبيتٌ تخفق
الأرواحُ فيه أحبُ إليّ من قصر
منيف
ولُبْسُ عباءةٍ
وتقِرَّ عيني أحب إليَّ من لبس
الشفوف
وتلكم طباع
نفسية تثير العجب، لا الانتقاد، لكن لا شك في جفاء الأعراب، وقد ورد القول: «من
بدا جفا»، ولا شك في افتقادهم العلوم والصنائع وفنون التجارات والمال، وابتعادهم
عن فقه العالَم الزاخر، ومدافعة الحق والباطل، وذلك خسران مبين!
أما إيثار نظام
القبيلة على نظام الدولة فقد أبعد الكاتب النُّجْعَة، وكتب التاريخ حبلى بأخبار
الفُتَّاك والصعاليك الذين ضاقت عليهم فضاءات القبيلة، وأخبار العصبية القبلية،
وصراعات القبائل مع بعضها لأوهي الأسباب، أو للا سبب، وقد قال قائلهم:
يغار علينا
واترين فيُشتَفَى بنا إن
أُصِبنا أو نغير على وتر
قسمنا بذاك
الدهرَ شطرين بيننا فما ينقضي إلى ونحن على شطر!
ثم توارثت
القبائل عصبياتها، بعد أن خضد الإسلام شوكتها، واصطحبوها في الحواضر، وكثير من
كوارث تاريخنا تعود إلى إيثار فردية القبيلة على جماعية الحضر، وعصبية الأولى على
لُحمة الثانية، كذلك كانت حروب الردة صَوْلةً على مركزية سلطة المدينة زمن أبي بكر
في عدالته ورحمته، وكذلك كانت صراعات العرب اليمنية والمضرية زمن الأمويين
والعباسيين، وفي الأندلس، فجلب الحكام عصبيات أخرى ضِرارًا بها، فجلب العباسيون
الترك، وجلب الأندلسيون الصقالبة زمن الخليفة عبدالرحمن الناصر ومن تلاه.
_____________________
(1) راجع:
الحضارة، دراسة في أصول وعوامل قيامها وتطورها، ص154-184.