من يدير الصراع على «روح الإسلام»؟

تعد المرجعية
الدينية الإسلامية العنصر الفاعل في تشكيل الهوية للمنطقة العربية، ولكنها أيضاً
كقوة ناعمة بما تحمله من مفاهيم وتنظيمات وتابعين وحركات عابرة للحدود تعد مجالاً
خصباً لصراع هيمنة جيوسياسي تديره القوى الدولية والإقليمية وتساهم في توجيهه لما
يحقق مصالحها في المنطقة.
في كتابه «الصراع
على روح الإسلام في المنطقة العربية»، يؤكد هشام جعفر، الباحث والكاتب الصحفي
المصري المعني بالشأن الإسلامي، أن سردية الانتفاضات العربية بوصفها حركة تبحث عن
عقد اجتماعي جديد يعيد تشكيل الدولة الوطنية، قامت على أسس ثلاثة: الحرية
والديمقراطية كأساس للإصلاح السياسي، والعدالة الاجتماعية والتوزيع العادل للموارد
كدافع للتنمية المستدامة، وتحرير الإرادة الوطنية من كافة أشكال الهيمنة الإقليمية
والدولية.
هذه النقاط
الثلاث كانت بمثابة التحديات الكبيرة التي واجهت الإسلاميين نتيجة لانفتاح مفاهيم
الحرية وإعادة صياغة العلاقة بين الدين والمجتمع.
إسلام
على هوى الغرب
صُبغ المشهد
العربي بطابع مختلف نتيجة تدخل المحاور الإقليمية، التي حاولت إحلال نموذج يُطلق
عليه «الإسلام المنزوع الديمقراطية»، وفقاً لما يعرضه جعفر، فإن هذا النموذج
النيوليبرالي يتمثل في انخراط الدين بشكل وثيق مع السوق مع تجاهل قضايا العدالة
الاجتماعية والاقتصادية، وهو نموذج متشابك مع العنف وتوظيف القوة الصلبة والناعمة
لتحقيق أجندات سياسية.
وتبرز أمثلة هذا
النموذج في السياسات الخارجية لكل من تركيا وإيران، حيث يتم تسخير القوة العسكرية
أو الوكلاء الإقليميين لفرض النفوذ في مناطق مثل سورية والعراق واليمن ولبنان، وفي
الوقت ذاته، يتم تقديم هذا النموذج على أنه منفتح ومتسامح ظاهرياً بينما تُهيمن
أجنداته الخاصة داخلياً (نلاحظ أن هذا التسامح بمرور الوقت يمرر مسألة التطبيع
عربيًا مع «إسرائيل»).
الغرور
الأمريكي واختلاق عدو
ترتكز سياسة
أمريكا على الأيديولوجيا التي تخلق عدواً وتصنعه، وقد تفرغت للحرب على الإرهاب
الإسلامي، حسب زعمها، بعد نهاية قصة الاتحاد السوفييتي، لكن في الواقع تشير
التقديرات لتراجع أمريكا بقوة قد خسرت الكثير من أهدافها وتراجعت مقدراتها
العسكرية والاقتصادية وأنهكت مواردها في العراق وأفغانستان، وفي المقابل لم تستطع أمريكا
التسويق لشرعية حروبها اللانهائية، فلم تحدث ديمقراطية في تلك البلدان، بل أججت
الطائفية والكراهية وقتلت الآلاف من الأبرياء.
في منطقتنا
العربية، تسعى أمريكا عبر خطة إدارة ترمب لـ«صفقة القرن» القائمة على تحالف عربي- «إسرائيلي»-أمريكي،
حيث تمثل «إسرائيل» محور هذه الرؤية، وتعتمد الاتفاقيات المرتبطة بها، مثل اتفاقية
أبراهام، على شعارات توافق أديان متعددة وتفتح المجال للصلاة في القدس للأتباع من
كافة الديانات، ما اعتبره المؤلف نوعاً من محاولة تطبيع الحرم القدسي لخدمة أهداف
سياسية.
وينتقد المؤلف
حالة الهلع الغربي من «الخطر الإسلامي»، التي أدت إلى تأجيج مظاهر التطرف في
العالم الإسلامي نفسه، وبرزت ظواهر في المقابل من جانب الإسلاميين مثل التبسيط
والاختزال (كاعتبار عودة «طالبان» انتصاراً للإسلام والمسلمين)، بعيداً عن النقد
الذاتي لتجارب الإسلاميين في الحكم.
«الربيع».،
وقطيعة الإسلاميين لماضيهم
يقدم الكتاب
تحليلًا للقطيعة التي شهدتها بعض التنظيمات الإسلامية مع حمولة الماضي وتركته
الثقيلة نتيجة صدمات «الربيع العربي» وغيره من المتغيرات السياسية، يبرز تحول
الجماعات كـ«جبهة النصرة» (التي أصبحت «هيئة تحرير الشام») كنموذج على التخفف من
الأيديولوجيات الجهادية السابقة (القاعدة) والانخراط تحت ضغوط المجتمعات
والديناميات الدولية مثل الحرب على الإرهاب (ضمن التحالف التركي).
ويرى الكاتب أنه
حتى جماعة الإخوان المسلمين واجهت معضلات متعددة تتعلق بعلاقتها بالسياق الوطني
والمحلي، وما زالت تعاني عجزًا واضحًا عن تقديم إجابات واقعية لمطالب الشعوب في
الإصلاح والتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وقد شاهدنا كيف تأثر إخوان مصر وتونس
تحديداً بعد «الربيع العربي»، وكانت عليهم ذات الانتقادات التي وجهت لمن سبقوهم في
علاقتهم بالمعارضة –من حيث الإقصاء والتهميش- وبين المآخذ التي تحدث عنها الكتاب
تأثر قطاع في الجماعة بأفكار التشدد والانفصال عن المجتمع والدولة، مع احتفاظها
بخطاب دعوي تقليدي.
الهيمنة
بورقة الدين
كان الماوردي
يقول: إنه إذا فسدت دنيا الناس أفسدت عليهم دينهم، وقد حدث ذلك – بحسب الكاتب- مع
غياب التنمية وشيوع الاستبداد والافتقار إلى الديمقراطية وتصاعد الجدالات الدينية
الثقافية وهيمنتها.
يتعمق الكتاب في
المسألة الجيوسياسية التي باتت تهيمن على المنطقة العربية حيث تتصارع ثلاث قوى
كبرى في سباق للسيطرة على القوى الناعمة والتأثير الإستراتيجي بعيد المدى، يتبلور
هذا الصراع الديني والسياسي في صيغ متشابكة تعكس سعي كل محور لتعزيز نفوذه
الإقليمي مستعينًا بالدين كأداة للسيطرة والهيمنة الجيوسياسية.
وبينما يشير
الكاتب إلى أن فائض التدين الذي شهدته المنطقة منذ ثمانينيات القرن الماضي لم يكن
له انعكاسات إيجابية حقيقية على حياة الناس، بل ارتبط بعدم التنمية وتصاعد
الاستبداد والهيمنة الدينية-الثقافية على المشهد، وقد سعت دول المنطقة للهيمنة على
الفضاء الديني ومؤسساته وكان لذلك تبعاته.
استعادة
الروح الحضارية للإسلام
يرى المؤلف أن
استعادة الذات الحضارية، التي تعرضت للتشويه نتيجة تصورات ملوثة بالحداثة، تستدعي
اجتهاداً مبدعاً، مع ضرورة بناء توافق وطني وتيار رئيس يُجمع حول قضايا
الديمقراطية، وعقد اجتماعي يرتكز على الحرية والعدالة في توزيع الثروة.
يشدد الكتاب على
ضرورة إبعاد الدين عن النزاعات السياسية الحزبية، ورفض كافة أشكال العنف، مع
استقلالية للمؤسسات الدينية الكبرى وعدم احتكار الدولة للفضاء الديني.
كذلك، يلزم
الانتقال من الأعمال الخيرية الإغاثية إلى مشاريع تنموية مستدامة، والتحول في
الخطاب الدعوي من كونه عاماً إلى متخصص يتعامل مع قضايا المجتمع الجوهرية، وأخيراً
بلورة خطاب لا تصبح فيه معركة الدين والعصر مفتعلة؛ والتغلغل لما هو أبعد من رفض
الدين للحداثة، لمنطق آخر نرى فيه العصر ومفرداته بعيون إسلامنا.