13 فبراير 2025

|

بذور حياة للقضية.. الأسرى المحررون

محمد القيق

13 فبراير 2025

36

يعتبر التحرر من السجن في الدرجة الأولى قيمة عظيمة على صعيد شخصي للأسير، حيث تلاطمت ذاكرته على مدار سنوات أسره بين فقدان محب أو مناسبة فرح أو حياة ارتبطت بها طفولته وشبابه.

في سجون الاحتلال “الإسرائيلي” معالم حياة تقتلها إدارة السجون بسياسات متعددة تتمثل في العزل الانفرادي، والحكم الردعي بزيادة سنوات الأسر، وفصل الأسرى بحواجز حديدية، ومنع التعليم والمحاضرات والتعبئة، وحصر الصلوات الجماعية في أوقات محددة. ورقابة يومية واقتحامات وتفتيش عار ونقل مستمر وعزل القيادات المؤثرة والاعتداء على أهالي الأسرى، وعقوبات متنوعة من منع زيارات إلى حرمان عديد من الحقوق وصولا للاعتداء بالضرب وإطلاق الكلاب البوليسية عليهم في أقسام السجن، وصولا إلى التجويع الممنهج وسحب التلفاز والأدوات الكهربائية ومواد التنظيف وقطع المياه عنهم.

كلها إجراءات تبدو في ظاهرها ممارسات أمنية لكنها في جوهرها حرب نفسية تمارس على الأسير الفلسطيني منذ لحظة اقتحام منزله وصولا إلى تحرره من السجن، ضمن برنامج نفسي أمني هدفه الأساسي يتمثل في:

  • قتل الذات والروح والمعنوية وربطه بحياة يومية يصعب التعايش معها لتحقيق ردع نفسي له من العودة لمقاومة الاحتلال أو لإحداث صدمة نفسية له على مدار وجوده في السجن.
  • قطع الحالة الفكرية وبتر الشعور الوطني في إطار ترويض يومي على سلوك السجان، وإحداث مقارنة عقلية داخلية بين الإهمال الطبي والانساني والحرمان الثقافي والوطني، وبين نشوة وقوة السجان للحد من قدرات الأسير وجعله يندم على قراره بالتخلص من الاحتلال.
  • تغيير العقل الجمعي لهذه الفئة والتي تعتبر رأس حربة للقضية الفلسطينية، فهم النخب المقاتلة المنفذة للعمليات الميدانية، وهم العقول المدبرة وهم الساسة الذين يوجهون الحركات، وهم الحركات الطلابية والنقابية والمؤسسات الاجتماعية، فبهذه الإجراءات السالخة للشخص عن واقعه الخارجي والضاغطة على نفسيته يحاولون إنجاح مشروع الهزيمة المعنوية التي هي أساس وسبب وجود فكرة الاعتقال.

قوارب النجاة

تعتبر الحركة الوطنية الأسيرة داخل السجون جناحا مهما في معادلة الوطن، بل هي قوارب نجاة تستخدمها الفصائل للنهوض بالأسرى من الواقع المرسوم لتدمير معنوياتهم، فعلى مرّ العقود استطاعت الحركة الأسيرة صناعة الحياة وتعزيز النجاة من مقبرة الأحياء حيث السجون، ومن زنازين القهر حيث التعذيب، لتصبح السجون جامعة ومدرسة ومنهجية تعبئة تكسر هدف إنشائها، فكانت النماذج التاريخية التي لها بصمة في الوطن هي من الحركة الأسيرة وجل من غيروا مسار الصراع مع الاحتلال هم أسرى محررون.

هذا الأمر تعجب منه كثيرون في الأروقة الأمنية “الإسرائيلية” التي اعتقدت لوهلة أنها نجحت في تحييد من اعتبرتهم الخطر على أمن الكيان وهم القادة الأسرى، فإذا بكل إجراءاتهم تنقلب لصالح استعمالها في تعزيز العقلية والروح الفلسطينية للأسرى، وهذا بالمقارنة مع حجم التخريب وغسل الدماغ والتشويش والعزل والترويض يعتبر فشلا أمنيا نفسيا استراتيجيا لمن وضع خطة هذه المقبرة.

أخطر العمليات الاستشهادية شهدتها الانتفاضة الأولى عام 1987 كانت على يد أسرى محررين، وأهم المنعطفات التاريخية سجلها أسرى محررون، وصولا إلى انتفاضة الأقصى التي صدمت العمليات الفدائية فيها المستوى العسكري والسياسي والأمني في الكيان، حيث إن قيادة الانتفاضة وأفراد الخلايا والمنفذين جلهم من الأسرى المحررين.

رغم مضاعفة أعداد الأسرى لعشرة أضعاف وشن عمليات اعتقال واسعة وتنكيل وعقوبات جماعية لأهاليهم بالقتل وهدم المنازل وسحب الإقامات من المقدسيين منهم ومنع السفر للأهالي؛ لم تنجح “إسرائيل” في إغراق قوارب النجاة

الصندوق الأسود

تعتبر قضية الأسرى مهمة أساسية لدى حركات التحرر الفلسطيني، فهي تعتمد على محطات ثلاثة في هذه القضية وهي:

- العمل على تحسين ظروفهم المعيشية داخل السجن وهذا من خلال تعزيز قدرتهم على اتخاذ قرارات واحتجاج على العزل والطعام والتفتيش والبرنامج الثقافي وغيرها، ويأتي ذلك ضمن استراتيجية تعبئة وتوجيه لوأد هدف الاحتلال من السجن وجعله مقبرة للفلسطينيين.

⁠- الاهتمام بحاضنة الأسرى وهم العائلة والمحيط والمؤسسات بتوفير كل ما يلزم لحياتهم وقوتهم وتعليم الأبناء وتركيز وتثبيت وتعويض ما فقدوه بغياب الأسير.

- العمل المقاوم بأسر جنود “إسرائيليين” لتحرير الأسرى الفلسطينيين، وهذه استراتيجية وأولوية عمدت إليها الحركات الفلسطينية المقاومة، ونفذت صفقات تبادل لأهمية هذه القضية في مشروع التحرير الشامل لفلسطين.

- تفعيل ملف الأسرى قانونيا وإعلاميا على كل الصعد والمحافل الدولية وإبراز معاناتهم وصمودهم في معارك الأمعاء الخاوية، ورفض خطوات السجان والعزل وانتزاع الحقوق، وهذا يعتبر قيمة معنوية وثقافية وتاريخية للأسرى يشعرون بها في السجون، وكذلك يصل صوتهم للعالم وتُفضح جريمة الاحتلال بحقهم.

السنوار

الأسرى المحررون هم شجرة مثمرة تتوزع في كل الوطن، فكل ما انطوى في ذاكرتهم الأسيرة يترجمونه حياةً بعدة أشكال، ولأنهم الكنز الخفي فتحريرهم مهمة المقاومة في كل حين، وهدف المقاومة في ذلك إحياء الروح لديهم حيث يشعرون أن من خلفهم شعبا ومقاومة تسعى لتحريرهم، ما ينعكس على دورهم النضالي بعد التحرر وأيضا على الشارع الذي حينما يقتنع أن المقاومة لديها قرار دائم بتحرير الأسرى فيتكون رأي عام مشجع للانخراط في التحرير والمقاومة، وهذا ينسف نظرية الاحتلال التي يحاول من خلال منع التحرر أن يشعر الشارع أن من يقاوم سيبقى أسيرا أبد الدهر.

كسرت المقاومة هذه المعادلة ولم تعد هناك معايير يختبئ الكيان خلفها لمنع التحرير، فتم تحرير أسرى من الداخل المحتل عام 1948 ومن بلاد عربية والقدس والضفة وقطاع غزة، وأعاد المحررون روحا وطنية للمشهد، وهذا من أهداف المقاومة؛ إيصال رسالة تاريخية أنه من يقاوم لن يغلق باب السجن عليه.

للمحررين بصمة كبيرة بعد الخروج من الأسر في البناء وتعديل الأخطاء وتعزيز الإرادة، فكانت نماذج كثيرة ليست أولها الأسير المحرر الشهيد صلاح شحادة الذي ساهم في تأسيس كتائب القسام، وليس آخرهم ذاك العقل المدبر لـ"طوفان الأقصى"، الأسير المحرر في صفقة التبادل عام 2011 الشهيد يحيى السنوار الذي أمضى 21 عاما في السجن، فخرج يرمم الهمة والشباب ويرتب الصفوف ويصدر القرار بتعزيز مشروع الحرية.

لذلك تعتبر قضية تحرير الأسرى مقبرة لمشروع الترويض “الإسرائيلي”، وهي ذاتها مدرسة الكرامة التي نجحت المقاومة في تثبيتها، فهي محورية ووجودية بالنسبة للطرفين، ونجاح أي طرف فيها يعني اقترابه من هدفه، فالاحتلال يسعى للترويض وموت فلسطين، والمقاومة تسعى للنهوض وإزالة الاحتلال، ولذلك هذه القضية مركزية تكلف الجميع أثماناً باهظة.

في المحصلة وفي قراءة الميدان تنجح المقاومة في المواجهة وتفتح الصندوق الأسود بكل الجهات، وهذا يعني تكرار نموذج البناء الذي خطه محررون شهداء، وتراكم خطوات التحرير لأجيال تقتدي وتتحصن بهذه الصورة؛ ما يعني أن الاحتلال تتكسر نظريته التي أرادها ردعا ليحصل على استقرار وثبات.


تابعنا

أحدث المقالات

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة