تربية الأجيال في ظل النزوح... تحديات وحلول إبداعية
![](https://mugtama.com/storage/uploads/N0kIfXRodjmuy1hgKG1fmuT4SwAqYHJrl554ogPf.jpg)
في ظل الفوضى والألم الذي خلفته موجة النزوح الناجمة عن الأزمات والصراعات في منطقتنا العربية والإسلامية، أصبحت تربية الأجيال من أهم التحديات التي تواجه حضارتنا المعاصرة؛ فقد وجد ملايين الأطفال أنفسهم في قلب واقعٍ مأساوي، يتنقلون بين الخيام والملاجئ تحت تهديدات القصف والدمار؛ ليظل مستقبل هذه الأجيال التي نشأت في رحم النزوح معلقًا في الهواء، وبحاجة إلى تدابير مبتكرة تضمن لهم فرصة التعلم والنمو بعيدًا عن كوابيس الحروب.
وفي قلب هذه المآسي، تفجرت ألوان من الأمل عبر مبادرات إبداعية، تتناغم مع روح الإنسان في تحديه للمستحيل؛ تسعى إلى توفير التعليم والدعم النفسي، وتفتح نافذة جديدة في وجه الظلام، وتظهر أن الإرادة الإنسانية قادرة على تجاوز الحواجز وتأسيس أمل جديد.
ورغم محدودية هذه الحلول، فإنها جسدت التفاعل الحي بين الواقع المأساوي والقدرة على الإبداع والتكيف، لتعيد بذلك الشعور بالأمل لهؤلاء الأطفال المنكوبين.
تحديات التربية في ظل النزوح
تشير أحدث البيانات إلى أن أكثر من 70 % من الأطفال النازحين واللاجئين يعانون اضطرابات نفسية، مثل: القلق والاكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة؛ نتيجة التعرض المستمر للعنف وفقدان الاستقرار.
وترتفع نسب العزلة الاجتماعية بينهم إلى 55%، مصحوبة بسلوكيات عدوانية تعيق اندماجهم مع المحيط، في حين لا يحصل 60% منهم على الدعم النفسي الكافي، ما يخلق حلقة مفرغة من التأثيرات السلبية التي تهدد مستقبلهم.
ولا تقتصر التحديات على الصحة النفسية، بل تمتد إلى التعلم نفسه. فـ40% من هؤلاء الأطفال يواجهون صعوبات في التركيز بسبب الظروف المعيشية القاسية، ما أدى إلى انخفاض التحصيل الدراسي بنسبة 30% في مناطق النزاع، وتكشف الإحصائيات أن طفلًا من كل 4 يحتاج إلى تدخل عاجل لاستعادة ثقته بنفسه، وتمكينه من مواجهة المستقبل.
وفي غزة ـ على سبيل المثال ـ لم يبق جيش الاحتلال الجبان في معظم المنشآت التعليمية على غير أطلالها، فانتقل الطلاب من فصولهم الدراسية إلى خيام مؤقتة تفتقر إلى أبسط مقومات التعليم، مثل الكهرباء والماء، والمدارس التي كانت يومًا ما ملاذًا للتعلم، تحولت إلى مأوى للنازحين.
ويكمن التحدي الأعمق في "الجروح الخفية" التي تحملها الأجيال الصغيرة، مثل: فقدان الأمان، وتراجع القدرة على التفاعل الاجتماعي، إضافة إلى التداعيات النفسية التي تعيق النمو العقلي والعاطفي لديهم.
ولا شك أن التربية والتعليم تواجه في كل مناطق النزوح واللجوء بشكل عام شحا في الموارد، كما يعاني المعلمون من آثار النزاع والضغوط النفسية، ما يدفع الكثيرين إلى ترك المهنة، وبالتالي تتفاقم أزمة التعليم، وتتداخل الأزمات النفسية والاجتماعية والاقتصادية لتنتج جيلًا يحمل عبئًا مضاعفًا: عبء النزوح، وعبء غياب الأدوات اللازمة للتعليم.
حلول إبداعية
ورغم قسوة الواقع، أصبحت المبادرات المبتكرة التي تتعدد وتتنوع في مجالات التعليم والدعم النفسي، الأمل الوحيد لتربية الأطفال الذين يواجهون واقعًا مريرًا جراء الحروب والصراعات، وهو ما يمكننا أن نتناوله بشيء من التفصيل في النقاط التالية:
الخيام التعليمية
مثلت الخيام التعليمية مساحات أمل مؤقتة في غزة، حيث دمر جيش الاحتلال الجبان المدارس وتحولت إلى مراكز إيواء، تحولت الخيام إلى فصول دراسية، رغم افتقارها إلى أدنى مقومات الحياة، ولكن، بفضل مبادرات محلية، تم تجهيز هذه الخيام بأساسيات التعليم: كراسات، وأقلام، وتدريس دروس في الرياضيات والقراءة.
ورغم أن هذه المساحات تفتقر إلى المرافق الأساسية كالمياه والحمامات، فإن دعم المنظمات مثل "الأونروا" ساعد في توفير الحد الأدنى من الموارد، ما أعطى الأطفال فرصة للتعلم.
التعليم التحرري
التعليم التحرري والأنشطة التشاركية من خلال منهجٍ تعليمي يركز على التفكير النقدي والتفاعل مع الواقع المأساوي، أحد أبرز الحلول المبتكرة، كما فعلت المعلمة هيا أبو ميري في غزة، حيث أدرجت الأنشطة التشاركية ضمن منهجها، مثل كتابة القصص الشخصية لمساعدة الطلاب على معالجة صدماتهم النفسية.
كما تم دمج الفنون والموسيقى لتخفيف التوترات النفسية، وعقدت أيضًا ألعاب تعليمية كـ"لعبة الكلمات"، التي ساعدت الأطفال على إعادة بناء هويتهم الوطنية من خلال تسمية الشوارع المدمرة، ولم تسهم هذه الأنشطة فقط في تحسين المهارات اللغوية، بل أيضًا في تعزيز الروابط الوطنية لدى الأطفال.
التكنولوجيا النازحة
كما ظلت التكنولوجيا إحدى الوسائل التي تمنح الأطفال فرصة للتعلم عن بعد، فمع انقطاع الكهرباء والإنترنت، ابتكر المعلمون طرقًا لتسجيل الدروس عبر تطبيقات مثل "واتسآب" أو منصات مثل "جو أكاديمي"، وباستخدام التطبيقات المجانية مثل "Scratch" لتعليم البرمجة، استطاع الأطفال الحصول على موارد تعليمية متنوعة.
وأيضًا تم تحميل المحتوى التعليمي مسبقًا لاستخدامه دون اتصال بالإنترنت، وهو ما أعطى الأمل في تجاوز نقص الأجهزة وضعف البنية التحتية، ولعبت بعض المنظمات دورًا في توزيع الأجهزة الذكية، ما أتاح للأطفال الوصول إلى المعرفة رغم الظروف الصعبة.
دمج الدعم النفسي مع التعلم
ظهرت مبادرات دمج الدعم النفسي مع التعليم، لمساعدة الأطفال على تجاوز آلامهم.. مثلًا، تم تنفيذ جلسات تخيل نهاية الحرب، حيث سئل الأطفال عن أحلامهم بعد انتهاء النزاع، كما تم توفير أنشطة الرسم والتلوين لتعبيرهم عن مشاعرهم.
أيضًا تم إنشاء مراكز للدعم النفسي داخل الخيام، على غرار مشروع "قرية الحياة" في سوريا ما قبل بداية الاستقرار، والذي أتاح للأطفال فرصة للتعبير عن أنفسهم بعيدًا عن مشهد الحرب، وهو ما ساعد في تقليل معدلات الاكتئاب والخوف، وأعاد للأطفال جزءًا من إنسانيتهم المفقودة.
مناهج أزمات
وفي مسعاها لوضع حل مبتكر لأزمة توقف الأطفال عن الدراسة لسنوات، طورت اليونسيف مناهج "أزمات" تركز على مواد أساسية مثل اللغة العربية والرياضيات والعلوم والإنجليزية، كما أقيمت دورات تعليمية مكثفة لإعداد الطلاب لامتحانات الثانوية العامة في مناطق مثل إدلب، ورغم التحديات المرتبطة بنقص الكوادر المؤهلة، تم تدريب المعلمين على أساليب التعليم في الأزمات، في محاولة لتعزيز قدرتهم على مواجهة هذه الظروف الاستثنائية.
الإرادة الإبداعية والمبادرات المبتكرة
ومما سبق يتضح أنه، إذا كانت الحقيقة القاسية قد فرضت نفسها على الأطفال في مناطق النزوح، فإن الإرادة الإبداعية والمبادرات المبتكرة قد تشق الطريق نحو مستقبل أفضل لهؤلاء الأطفال المنكوبين، لتظل أملًا في مسعى دائم لإعادة بناء ما دمرته الحروب، إذ تعكس قدرة الإنسان على التكيف والإبداع في أسوأ الظروف، وفتح أبواب الأمل في قلوب الأطفال الذين نشأوا في عالم مليء بالدمار.