تعهّد الأعمال الصالحة في رمضان.. ومراعاة أخلاقيات الشهر

ها هي الأيام المعدودات تتناقص وترحل كالبرق، والشهر تمر ساعاته وأيامه كالريح العاصف يذهب بأوراق الأشجار، من هنا كان لا بد من مراجعة ما فات، ليكون العزم صادقاً على ما هو آتٍ.

لقد تآلفت النفوس مع نظام العبادة والطاعة في الشهر الفضيل، وغدت تنخرط بهمة عالية في العمل الصالح، والوفود في أول الشهر أتت زمراً، تعجز كبريات المساجد عن استيعاب حشودها الكثيرة المتنافسة، تتراص جنباً إلى جنب لأداء الصلوات، خاصة التراويح.

لكن ما تمر الأيام المعدودة إلا وتتناقص الوفود، وتشهد الأيام الوسطى من الشهر تناقصاً ملحوظاً في أعداد الطائعين عن لحظة البدء، من هنا كان يجب إعادة النظر في الموقف من الطاعة، باستعادة النفس الشرود، في الأيام الباقيات، فإن رمضان لا يقبل الحلول الوسط، ففي حديث أبي هريرة، قال صلى الله عليه وسلم: «رغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له»(1).

الشياطين تختال النفوس

إن الشياطين لا تعجز في صرف النفوس عن الحق، ولا تصاب بالفتور ولا باليأس، ومهما كانت مصفَّدة في الشهر الفضيل، فإنها ليست ممنوعة بالكلية، والشيطان فلا يفتر عن تثبيط الهمم، بل والحيلولة بينها وبين الخير، قال بعض السلف: ما أمر الله تعالى بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان: إما إلى تفريط وتقصير، وإما إلى مجاوزة وغلو، ولا يبالي بأيهما ظفر، قال: وأكثر الناس سقط في أحد الواديين؛ وادي التقصير، ووادي المجاوزة والتعدي، والقليل منهم جداً الثابت على الصراط الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه(2).

فالمرء ينشط في أول الشهر، وتزيده العبادة نشاطاً كما يزيد الماء الأرض الخصبة نماء، ومنهم يدهمه الفتور، فتخور همته إما في أول الطريق، وإما في وسطه، والقليل هم الذين يواصلون السير، فأيام العبادة والطاعة ممحصة لأصحاب العزائم.


صيام رمضان.. من تهذيب النفس إلى إصلاح المجتمع |  مجلة المجتمع الكويتية
صيام رمضان.. من تهذيب النفس إلى إصلاح المجتمع | مجلة المجتمع الكويتية
أمرنا الله تعالى بالصيام بقوله: (أَيُّهَا الَّذِي...
mugtama.com
×


تعهد النفس بالحساب

إن النفس التي بين جوانح الإنسان هي من أكبر عوائق الطريق، فهي ميَّالة إلى الراحة، لحوحة نفورة، من تركها وأرخى لها العنان مالت به عن الطريق، وفي الأثر: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وتزينوا للعرض الأكبر، وإنما يخف الحساب يوم القيامة على من حاسب نفسه في الدنيا؛ وفي التنزيل الحكيم: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) (الأعراف: 201).

يخاطب ابن الجوزي نفسه قائلاً: اجتهدي في تصحيح الإيمان، وتحقيق التقوى، وأبشري حينئذ بالراحة من ساعة الموت، فإني لا أخاف عليك إلا من التقصير في العمل، واعلمي أن تفاوت النعيم بمقدار درجات الفضائل، فارتفعي بأجنحة الجد إلى أعلى أبراجها، واحذري من صائد هوى، أو شرك غفلة(3).

فالهوى صائد النفس، يدعوها للفتور، فتترك الطاعة أحوج ما تكون لها، وأنشط ما تكون مقبلة عليها، وإنما هي بحاجة لطول المحاسبة، وأعظم النفوس من تديم الحساب لنفسها، كما أن أفضل الأعمال أدومها.

وكتب ابن السماك إلى أخ له: اجعل الله في بالك على حالك في ليلك ونهارك، وخف الله بقدر قربه منك، وقدرته عليك، واعلم أنك بعينه ليس تخرج من سلطانه إلى سلطان غيره، ولا من ملكه إلى ملك غيره فليعظم منه حذرك وليكثر منه وجلك(4).

وعن الحسن رضي الله عنه قال: إن المؤمن أسير في الدنيا يسعى في فكاك رقبته، لا يأمن شيئاً حتى يلقى الله، يعلم أنه مأخوذ عليه في ذلك كله(5).

إن لوم الملائكة للداخلين أفواجاً متتابعة إلى النار يقطع الأكباد: (حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا) (الزمر: 71)، أما وفود الجنة، فيقولون بعد ترحيب الملائكة بهم: (وَقَالُوا الْحَمْدُ لله الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) (الزمر: 74).

ومن نظر في حال الملومين، علم أنهم تركوا نفوسهم في أودية الهلاك بلا حساب.

القرار العبادي

إن كثيرين لا يستطيعون تغيير الأنماط الحياتية، بتوطين النفس وفق قرار عبادة ينبع من الذات، وهي إحدى آفات البقاء على طريق الخير الموصول، فما دام المرء يربط عبادته والنشاط لها بمن حوله، فلن يستطيع الفكاك من السلاسل التي قيد بها نفسه، ولذا كان من أهم ما يعين على تعهد العمل الصالح، هو خروج القرار العبادي من الذات، وتوطين النفس على مخالفة الأهواء السائرة.

في الأثر عن عبدالله قال: لا يكون أحدكم إمعة قالوا: وما الإمعة يا أبا عبدالرحمن؟ قال: يقول: إنما أنا مع الناس إن اهتدوا اهتديت، وإن ضلوا ضللت، ألا ليوطن أحدكم نفسه على إن كفر الناس أن لا يكفر(6).

ومتى فتح الله لك باب طاعة، فلا تتركه أبداً، قال ابن عطاء الله: كفى من جزائه إياك على الطاعة أن رضيك لها أهلاً(7).

هناك من تُرى بالحجاب لغلبته في البيئة التي تعيش فيها، ثم ما تلبس أن تتركه إذا تغيرت البيئة، هناك من ينشط للصلاة لغلبة البيئة، فهو مع الصفوف إذا تراصت، ولكنه معهم إذا غفلوا.

والقرار العبادي في رمضان يشبه الهدف والتخطيط الهادف، فقرار الإنسان بالعمل الصالح عامة إذا نبع من الذات، فإن الوقت سيتوفر له، وسيجد له من الوقت ما يتسع ويكفي.


الاستثمار في بورصة رمضان |  مجلة المجتمع الكويتية
الاستثمار في بورصة رمضان | مجلة المجتمع الكويتية
فرص الاستثمار في بورصة رمضان، والمكاسب المتوقعة، لمن أراد الفوز فيما تبقى من الشهر الفضيل
mugtama.com
×


أخلاقيات الشهر

إن رمضان ليس كسائر العام، والذين يتهمون بعض المجتهدين في رمضان بأنهم عبَّاد رمضان! مخطئون أشد الخطأ، قال ابن عباس: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في شهر رمضان.. الحديث»(8)، وإنما كان يزيد جوده صلى الله عليه وسلم لعظم العبادة ذلك الزمن المخصوص، حيث تعظم زماناً وتعظم مكاناً.

لقد أرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى المحافظة على أخلاقيات معينة في رمضان، ففي الحديث قال صلى الله عليه وسلم: «الصيام جنة فلا يرفث ولا يجهل، وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم مرتين»(9)، وهكذا تكون أخلاق الصائم في يومه دائماً، صيانة دائمة، وكفّ للأذى.

إن الأخلاق التي يجب أن تراعى عموماً، وفي الصوم خاصة، هي: الصبر، والعفة، والشجاعة، والعدل، وما تفرع عنها، ويجب أن يتجنب أخلاق السوء وأركانها: الجهل، والظلم، والشهوة، والغضب، وما تفرع عنها(10).

ثم عليه أن يلزم الطريق حتى تتهذب أخلاقه، وتلين له نفسه، فتسلس له قيادها، وهكذا يسير في طريق الدار الآخرة مهتدياً بفريضة الصيام، مستعيناً بها على تهذيب النفس وكبح شرودها وشرورها.

 

 

 

 

 

_________________

(1) صحيح، أخرجه الترمذي.

(2) إغاثة اللهفان (1/ 116).

(3) صيد الخاطر، ص 50.

(4) حلية الأولياء (8/ 206).

(5) مصنف ابن أبي شيبة (8/ 257).

(6) المعجم الكبير (9/ 152).

(7) الحكم العطائية.

(8) أخرجه مسلم.

(9) متفق عليه.

(10) مدارج السالكين (2/ 294-295) بتصرف.


الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة