صيام رمضان.. من تهذيب النفس إلى إصلاح المجتمع

أمرنا الله تعالى بالصيام بقوله: (أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة: 183)، وبين المقصد الأسمى من مشروعيته بقوله: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، لكن هل الصيام مجرد عبادة فردية تهدف إلى تهذيب النفس، أم أنه تجربة اجتماعية تمتد إلى إصلاح المجتمع؟ وهل التقوى المطلوبة من الصيام تقتصر على البعد الفردي، أم أنها تمتد إلى المجال الجماعي؟ وهل تنتهي رسالة الصيام بانقضاء رمضان، أم أنها تمتد لتكون منهج حياة دائماً؟ للإجابة عن هذه التساؤلات، سنناقش الموضوع من خلال 3 مداخل:

الأول: صيام الفرد ورحلة تهذيب النفس:

يعرِّف الفقهاء صيام رمضان بأنه إمساك عن المفطرات، من طلوع الفجر إلى غروب الشمس مع النية، وهذه المفطرات تتعلق أساساً بشهوتي البطن والفرج وما في معناها، لكن لماذا كان الإمساك عنهما تحديدًا؟ لأنهما كانتا السبب الأول في شقاء البشرية، وما زالتا كذلك؛ فقد أغوى آدم وزوجه حتى أكلا من الشجرة التي نُهِيا عن قربانها، فكان ذلك سبب خروجهما من الجنة، ثم إن قابيل أراد أن يستأثر بمخطوبة أخيه لأنها كانت وضيئة في حين كانت مخطوبته دميمة؛ ما دفعه لقتل أخيه هابيل حسدًا من عند نفسه، فأصبح من الخاسرين، وبذلك سنَّ القتل في الأرض.

ثم إن تجاوز حدود ما أنزل الله فيما يتعلق بهاتين الشهوتين مؤذن بفساد كبير، فقد فضَّل الله بني إسرائيل في فترة من الزمن على العالمين، لكنهم لم يصبروا على طعام واحد، واعتدوا في السبت لما عوقبوا بالحرمان من الحيتان، كما كانت أولى فتنتهم في النساء، فهوت بهم هاتان الشهوتان في واد سحيق، حتى ضُرِب لهم المثل بالكلاب والحمير.


أثر تزكية النفس على اغتنام شهر رمضان |  مجلة المجتمع الكويتية
أثر تزكية النفس على اغتنام شهر رمضان | مجلة المجتمع الكويتية
رمضان سباق عظيم، جوائزه ليست كأي جائزة، ففيه العت...
mugtama.com
×


وفي تقرير هذا المعنى وربطه بالصيام، يقرر الإمام الغزالي «أن سبب هلاك الناس حرصهم على الدنيا، وسبب حرصهم على الدنيا البطن والفرج، وسبب شهوة الفرج، شهوة البطن، وفي تقليل الأكل ما يحسم هذه الأحوال كلها وهي أبواب النار وفي حسمها فتح أبواب الجنة» (إحياء علوم الدين).

توضيح ذلك أن الإنسان خُلِقَ ضعيفاً خاصة أمام هاتين الشهوتين، وإن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وأعظم منافذ الشيطان للإنسان شهوتا البطن والفرج، والصيام يضيق مجاري الشيطان في ابن آدم ويضعف نفوذه.

وفي رمضان تفتح أبواب الجنة، وتغلق أبواب النار، وتسلسل مردة الشياطين؛ ما يشكل عونًا إلهيًّا مهمًّا للصائم، وحينئذ، لا غرابة أن الصائم في الغالب تكثر منه الطاعات وتقل منه المعاصي.

إن الصيام جاء إذًا ليحرر الإنسان ويعتقه من رق النفس وشهواتها، جاء ليخرجه من سلطان الطعام والشراب ومن سلطان الشهوات، بل ليخرجه من سلطان كل نقيصة، ويكسر حدة تعلقه بالماديات، ويعلي قيمة الروح على المادة، والعقل على الشهوة، ويزرع فيه مراقبة الله.

الثاني: صيام الجماعة ومشروع الإصلاح:

في حديثهم عن أقسام الواجب الشرعي، يتحدث علماء أصول الفقه عن الواجب الموسَّع والواجب المضيَّق، أما الواجب الموسع، فهو الذي حدد له الشرع وقتاً، يتسع له ولغيره من جنسه معه، مثاله: صلاة الظهر؛ لأن وقتها يسع أداء صلاة الظهر وأداء أي صلاة أخرى، كما أن للمكلف أن يؤدي صلاة الظهر في أي جزء من هذا الوقت.

أما الواجب المضيق، فهو الذي حدد له الشرع وقتاً، لا يتسع لغيره من جنسه معه، مثل: الصيام في شهر رمضان، فهو مضيق؛ لأنه لا يسع إلا صوم رمضان، ولا يستطيع المكلف أن يصوم في رمضان تطوعًا أو نذرًا أو قضاء؛ لأن الوقت بقدر الواجب لا يزيد عنه ولا ينقص، ولكن هذا الوقت يتسع لغير الصيام من الواجبات والمندوبات التي ليست صياماً، كالصلاة وقراءة القرآن وصلة الأرحام؛ ولهذا المعنى قيل في تعريفه: لا يتسع لغيره من جنسه معه.

ولأن الصلاة واجب موسع؛ فيمكن فيها أن تؤدى فرادى وجماعة، لكن لما كان الصوم واجباً مضيقاً، لم يتصور فيه إلا أن يكون صيام الجماعة، فطبيعته الزمنية تجعله تجربة جماعية بالضرورة.

هذا البعد الجماعي للصيام عبر عنه المفكر علي عزت بيجوفتش بقوله: «فقد اعتبر المسلمون الصوم خلال شهر رمضان مظهرًا لروح الجماعة، ولذلك فإنهم حساسون لأي انتهاك علني لهذا الواجب، فالصيام ليس مجرد مسألة إيمان، ليس مجرد مسألة شخصية تخص الفرد وحده، وإنما هو التزام اجتماعي.


الصيام في فلسفة علي عزت بيجوفيتش ومراد هوفمان |  مجلة المجتمع الكويتية
الصيام في فلسفة علي عزت بيجوفيتش ومراد هوفمان | مجلة المجتمع الكويتية
بجانب الحكمة الإلهية من صيام شهر رمضان، والفلسفة ا...
mugtama.com
×


فالصوم يمارس في قصور الملوك وفي أكواخ الفلاحين على السواء، في بيت الفيلسوف وفي بيت العامل، وأعظم ميزة فيه أنه يمارس ممارسة حقيقية» (الإسلام بين الشرق والغرب).

إن كون صيام رمضان مظهرًا لروح الجماعة، وأنه التزام اجتماعي، يجعل المسلمين حساسين لأي انتهاك علني لهذا الواجب؛ ويؤسس لفكرة التقوى في المجال العام، فالجماعة تصوم عن المنكرات السياسية، وعن أسباب الفرقة والانقسام، وتصوم عن التطبيع مع العدو الصهيوأمريكي والارتهان إليه.

تصوم الجماعة عن القعود عن جهاد المحتل، وعن إسلام إخوان العقيدة في غزة المحاصرة إلى أشد الناس عداوة للذين آمنوا، الذين لُعِنوا على لسان داود، وعيسى ابن مريم، ومن هنا كان رمضان شهراً للجهاد، وارتبطت التقوى بالمقاومة والتحرر من الظلم والاستبداد.

وتمتنع الجماعة في الوقت نفسه عن المنكرات الاجتماعية، والخلافات العائلية، وأكل أموال اليتامى بالباطل، وظلم الأرامل، والتجرؤ على الذات الإلهية، كما أنها تلتزم بمعايير الحق والعدالة والنزاهة والشفافية، وتمسك عن مخالفتها؛ لأن من أهم رسائل الصيام إعلاء قيمة الروح على المادة.

يستفز الجماعة تبرج النساء، كما يستفزها عري الأمة من أسباب المنعة والنهوض، وهو ما يدفعها للانشغال بصالح الأعمال في مكافحة الفقر والظلم والبطالة والفساد والظلم بمختلف أشكاله.

إن الجماعة تصوم عن هذه المنكرات، وتنكر وقوعها، بل تسعى إلى تغييرها، لا يرهبها -وهي التي تحررت في الصيام من سلطان الخوف من غير الله- محتل غاصب ولا مستبد غشوم ولا إرث اجتماعي مخالف لجادة الحق.

في ضوء ما سبق، يمكن القول: إن الحديث عن التقوى في المجال الفردي وإغفالها في المجال العام نوع من العلمنة في الخطاب الديني؛ ذلك أن الإنسان قد يكون متقياً في المجال الفردي (ملتزم بالصلاة مثلاً)، لكنه ليس من المتقين في المجال العام (يتخوَّض في مال الله بغير حق).

والمقصود أن الصيام كما يزكي الفرد، فإنه قادر على أن يزكي الجماعات؛ ليصبح أثره ممتدًا من تهذيب الأفراد إلى إصلاح الأمة.


الصيام ودوره في ترابط المجتمع وتكافله |  مجلة المجتمع الكويتية
الصيام ودوره في ترابط المجتمع وتكافله | مجلة المجتمع الكويتية
إن الصيام فضائله ومنافعه كثيرة ومتعددة، ومن تلك المنافع تحقيق مبدأ الترابط والتكافل الاجتماعي بين أفراد المجتمع المسلم، وهي منفعة تنتج عن تشبع قلب المسلم بالتقوى فيجعله يستشعر حقيقة الجسد الواحد
mugtama.com
×


الثالث: الصيام المؤبد وظيفة العمر:

لما كان الصيام مشروع إصلاح للفرد وللجماعة، كانت رسالته تتعدى رمضان، لتكون وظيفة العمر؛ توضيح ذلك أنه في رمضان يمتنع الصائم بإرادته لمدة شهر كامل عن المفطرات التي هي أمور مباحة في الأصل، وهذا صيام مؤقت؛ شهر في السنة، وعدد ساعات محدود يومياً.

ورسالة صيام رمضان من هذا التدريب أنه إذا استطاع المرء أن يتم صيام شهر كامل عن أمور مباحة في الأساس، فالأصل أن تتولد فيه إرادة وعزيمة ليصوم عن محارم الله التي هي حرام في الأساس، وأن يكون أقدر على الصيام عنها؛ وبهذا الاعتبار يكون الصيام مؤبداً، ويكون عبادة العمر وليس عبادة رمضانية فقط، فمحارم الله لا تحل بالليل إذا سجى، ولا بالشهر إذ أدبر، أو شوال إذا أسفر.

بعد أن أنهى حديثه عن أحكام الصيام انتقل القرآن الكريم مباشرة للحديث عن النهي عن أكل أموال الناس بالباطل؛ (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة: 188)، وقد علَّق عليها العلماء بأنها انتقالٌ في التشريع من وجوب الصوم المؤقت عمَّا أحلَّ الله من الطيبات المتعلقة بالبطون والفروج إلى فريضة الصوم المؤبد عن محارم الله، وفي مقدمتها أكل أموال الناس بالباطل.

وفي إطار التلازم بين الصيامين المؤقت والمؤبد، قال النبي صلى الله عليه وسلم عن أبي هريرة: «إِذا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحدِكُمْ، فَلا يَرْفُثْ وَلا يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ، أَوْ قاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ: إِنِّي صائمٌ» (متفقٌ عَلَيْهِ)، وعنهُ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ لَمْ يَدعْ قَوْلَ الزُّورِ والعمَلَ بِهِ فلَيْسَ للَّهِ حَاجةٌ في أَنْ يَدَعَ طَعامَهُ وشَرَابهُ» (رواه البخاري)، وهذا المعنى عبر عنه جابر بن عبدالله رضي الله عنه بقوله: «إِذَا صُمْتَ، فَلْيَصُمْ سَمْعُكَ وَبَصَرُكَ وَلِسَانُكَ عَنِ الْكَذِبِ وَالْمَآثِمِ، وَدَعْ أَذَى الْخَادِمِ، وَلْيَكُنْ عَلَيْكَ وَقَارٌ وَسَكِينَةٌ يَوْمَ صِيَامِكَ، وَلَا تَجْعَلْ يَوْمَ فِطْرِكَ وَيَوْمَ صِيَامِكَ سَوَاءً» (مصنف ابن أبي شيبة).

والذنوب تضر بالصيام، وتجعله خداجاً، يرشد إلى هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «رُبَّ صَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ صِيَامِهِ الْجُوعُ وَالْعَطَشُ» (رواه أحمد)، وفي هذا المقام ناقش أهل العلم تأثير المعاصي على الصيام، فمنهم من ذهب إلى بطلان الصيام ببعض أنواع المعاصي كالغيبة، وإن كان الصحيح من أقوال العلماء أنها تذهب الثواب ولا تبطل الصيام.

تأسيساً على ما سبق، يمكن القول: إن صيام رمضان في حقيقته إمساك عن أسباب الشقاء (محارم الله المتعلقة بالفرد أو الجماعة) ليكون الإنسان (فرداً كان أو جماعة) من المتقين، وإن أجلى مظاهر التقوى الصوم عن محارم الله في رمضان وفي غيره، والصيام بهذا المعنى مطلوب من الجماعة كما هو مطلوب من الفرد، وإذا كنا نتحدث عن مسلم ما بعد رمضان، فإن المطلوب بشكل أكبر أن نتحدث عن مجتمع ما بعد رمضان.


كلمات دلاليه

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة