13 فبراير 2025

|

رواية "تغريبة معروف الإسكافي" (5)

 

الفصل الخامس

استمع الملك إلى ما قاله الوزير نقلا عن معروف، وتأكد الملك أن وزيره كانت تحرّكه كراهية مقيتة للرجل، ويسعى حثيثا لإفشال الزيجة التي يريدها لابنته، فقال لوزيره:

-       أما زلت تقول عنه إنه نصابٌ كذابٌ؟ 

قال الوزير وملامحه تشي بالكراهية واللؤم: 

-       ولم أزل أقول ذلك! 

انتفض الملك ووبّخه، وتيقن أنه عدوّ له ولابنته جميعا، وأسرّ في نفسه أن يؤجّل مواجهته إلى وقت مناسب، ولكنه توعّده إن لم يرجع عن رأيه ويكفّ عن إعلانه أمام الناس، وطلب منه أن يتركه لمعروف يتفاهمان مباشرة، ثم أمره أن يذهب ويحضره إليه، فقال الوزير: 

-       سمعاً وطاعةً يا مولاي.

 

قال معروف لصاحبه عليّ، وهما يتناولان الطعام:

-       ما رأيك؟

بدا صاحبه عازفا عن الكلام، بسب حنقه عليه، وتعريضه للحرج مع التجار بسبب قروضه، واحتياله، ووعوده الكاذبة، ولكنه أخرج إجابة قصيرة من تحت ضرسه:

-       فيم؟ 

-       في عرض الملك.

-       أي عرض؟

-       زواجي من ابنته. 

قال بغضب وحزن:

-       واضح أنك ستضحي بي بعد أن تضحي بنفسك على مذبح التأديب والعقاب!

تبسم معروف، وقال لصاحبه وهو يبدو مسرورا منتشيا:

-       سأكون صهرا لملك المدينة، وستكون ابنته مفتاح الثراء والسعادة لي والخير لك.

فال علي محتدا:

-       لا أريد منك سعادة ولا غيرها. أريد أن تتوقف عن العبث. ولا تنس أن ديون الناس فوق رقبتك..

قال معروف بهدوء واطمئنان:

-       الملك صدقني وسيزوّجني ابنته.

-       مثلك لا يليق به إلاّ فتحية العرّة!

-       سامحك الله. إنها عذاب الكافرين في الدنيا قبل الآخرة، وأنا رجل مؤمن.

-       ولكنك عشت معها هذا العذاب.

-       لم أكن خالدا فيه بفضل الله.

سكت عليّ ولم يتكلم، ودقّ الباب، وانفرج مصراعه عن وجه الوزير المريب:

-       فليحضر معروف إلى صاحب الجلالة حالا!

فقال معروف:

-       إني لاحق بك!

 

 قال الملك موجها كلامه إلى معروف: 

-       لماذا تتهرب من عرضي عليك؟

-       كلا يا صاحب الجلالة، ولكن القافلة لم تأت بعد.

-       هذا عذر غير مقنع لي. إن خزائني مفتوحة لك.

-       بارك الله في عمر مولاي، وأيّد ملكه.

وأشار الملك إلى خازن بيت المال، وأخبره على مسمع من الوزير، أنه سيصبر على صداق ابنته، وأن خزائنه ممتلئة فلينفق منها معروف جميع ما يحتاج إليه وليعط من يشاء من الفقراء والمحتاجين، وأن جلالته سيتولى تجهيز العروس وأمر الجواري، وحين تأتي القافلة فليكرم معروف أهله ومن حوله.

 

ارتفع صوت شيخ الإسلام بقوله تعالى: " وَمِنْ ءَايَٰتِهِۦٓ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَٰجًا لِّتَسْكُنُوٓاْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَءَايَٰتٍۢ لِّقَوْمٍۢ يَتَفَكَّرُونَ" وراح يتلو الآيات والأحاديث التي تتناول العلاقة بين الزوجين والحكمة من الزواج، وعقب الانتهاء من مراسيم العقد ارتفعت في أرجاء القصر الفخم الزغاريد والأهازيج، وانبسطت الوجوه وبان الفرح على ملامح جميع من حضروا عقد القران، إلا الوزير، فقد كان وجهه جامدا، وملامحه تفيض مكرا ودهاء، ولا أثر فيها للفرح أو السرور. 

كانت المدينة ترتدي ثياب الزينة، وسمع الناس نقر الدفوف، ودق الطبول، ومُدت موائد الأطعمة من سائر الألوان، وأقبل أرباب الملاعب والشطار والجنك وأرباب الحركات الغريبة والملاهي العجيبة، وراح معروف يطلب من الخازن دار أن يأتي له بالذهب والفضة فيدور على اللاعبين والمتفرجين ويعطيهم بالكبشة ويحسن إلى الفقراء والمساكين والعريانين...

 لم تشهد المدينة مثل عرس معروف الذي جعل الناس يقفون على قدم وساق سرورا وابتهاجا غير مسبوقين. وتعب الخازن دار من الذهاب إلى الخزينة والمجيء بالأموال التي يوزعها العريس على الناس حتى أوشكت الخزينة على الفراغ، بينما الوزير يتميز غيظا، ويكاد قلبه يتوقف مما يرى ويشاهد دون أن يستطيع التفوه بكلمة. والتاجر عليّ يتعجب مما يرى من بذل الأموال بغير حساب وتبذيرها بصورة عشوائية، فأخذ يميل على أذن صاحبه مؤنّبا وموبّخا: 

-       أما كفاك أن أضعْت مال التجار، وتضيّع الآن مال الملك؟ 

فيرد عليه هذا في أذنه أيضًا: 

-       لا شأن لك، وإذا جاءت القافلة أعوّض الملك بأضعافه!

سخر منه عليّ، وهمس:

-       الحدأة لا ترمي كتاكيت، وغدا تصفو البرْكة وتظهر قواقعها!

 واستمر معروف في تبذير الأموال وهو يقول في نفسه: " المكتوب على الجبين لازم تشوفه العين، والمقدّر ما منه مهرب".

وعلى مدى أربعين يوماً لم تنقطع طبول الأفراح والاحتفالات بالعرس الكبير، وفي ليلة الحادي والأربعين تحركت زفة العروس، وسار في مقدمتها الأمراء والعساكر، وعند ما وصلوا إلى السكن الذي خصص للعروسين؛ قام معروف ينثر الذهب على رؤوس الخلائق، واستقبل عروسه وأرخيت الستائر وأغلقت الأبواب.. وخيم الصمت على المدينة بعد طول سهر واحتفالات. 

"تبارك الله"!

قالها معروف في نفسه، وهو يرى عروسه في جلوتها، لم يتوقع أن يكون هذا الجمال الفريد من نصيبه. جمعت العرّة قبح الشكل مع قبح الطبع، أما هذه فسبحان من أبدع وصور، جمال وأنوثة وحسن منطق وهدوء سمت..

طفت على صفحة ذهنه كلمات صاحبه عليّ، فران على وجهه حزن عظيم، كيف يعيش مع هذه العروس الجميلة الطيبة وهو كذاب لا يملك درهما، وأموال الناس والملك تجثم على صدره، ولا يستطيع لها ردًا؟ 

جلس كئيبا حزيناً، وراح يضرب كفاً على كفٍ ويقول: 

-       لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، 

فقالت له العروس: 

-       مالك سيدي؟ سلامتك! 

لأول مرة تناديه امرأة "سيدي"، ولأول مرة يشعر أن امرأة تتعاطف معه وتدعو "سلامتك".. العرّة لم تهتف به إلا بلغة الوضاعة والخسة، وما فكرت يومًا أن تبدي مشاعر العطف عليه أو الإشفاق لما يصيبه، الوحشية أسلوبها وطريقتها.. "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم"، وعاد إلى نفسه سريعًا.. 

وفاجأ العروس قائلًا: 

-       إني حزين مهموم. شوّش عليّ أبوك. وعمل عملا يشبه حرق الزرع الأخضر!

اندهشت لما قاله، واستفسرت منه عما فعله أبوها، فقال: 

-       أدخلني عليك قبل أن تأتي قافلتي. أردت أن أوزّع مائة جوهرةٍ على الأقل على جواريك لكل واحدةٍ منهن جوهرةٌ تفرح بها، وتفاخر أن سيّدها أعطاها جوهرة في ليلة زفافه على سيدتها، تعظيماً لمقامك وزيادةً في شرفك. 

علَتْ الابتسامة الهادئة الراضية جبينها، وقالت: 

-       لا تهتم بذلك ولا تحزن يا سيدي. ولا عليك مني، فإني أصبر حتى تجيء القافلة، وسأتولى أمر الجواري.

ثم ابتسمت ابتسامة ذات مغزى، وطلبت منه أن يتخفف من ملابسه، وينسى متاعبه وهموم القافلة ومشكلاتها، ويترك موضوع الجواهر حتى تأتي.. 

لم يتصور أن تكون هناك امرأة هكذا، إنها أميرة وابنة ملك، وتتعامل معه بطريقة لم يحلم بها، لقد كانت النساء في ذهنه صورة مكررة من العرّة وطباعها، ولكنه فوجئ بشيء آخر. حمد الله في سرّه الذي وهبه هذ الجوهرة التي لا تقدّر بثمن، وتمدّد الاثنان على السرير الذي لم ينم على مثله من قبل، وبجوارهما أطباق الفاكهة الفاخرة، والحلويات النادرة، فضلًا عن لذائذ المأكولات من اللحوم والطيور، وراحا يتناجيان، ويتطارحان الكلام عن الأحلام الجميلة، وتواصلا مع الحب وذابا في العسل...وكانت ليلة من الليالي التي لا تحسب من الأعمار!

 

في الصياح كان معروف يرتدي زيا من أزياء الملوك، ويحتفي به الديوان احتفاء يفوق الحفاوة بأكبر زوار الملك من الأمراء والكبراء. نهض كل من فيه للترحيب بزوج الأميرة وصهر الملك. لقد قابلوه بالإعزاز والإكرام، وقدموا له أجمل التهاني والتبريكات، وجلس بجانب حميه شامخًا مبتهجًا. 

لم يتصور في يوم ما أن يجلس إلى جوار ملك، ويتزوج ابنة ملك، ويشاهد عزّا لم يره بعينه، ولم يسمع عنه بأذنه إلا في الروايات وحكايات الرباب، ثم هناك شعور لم يعتره من قبل، وهو استعادة وجوده وذاته ورجولته، فقد قتلت فيه فتحية العرّة إحساسه بالحياة، وجعلت منه كتلة لحم تتحرك على الأرض لا تفكر إلا فيما يمسك الحياة.. أما الأميرة فقد أعادت إليه كيانه الإنساني، فأحس بطعم الدنيا، وشعر أنه رجل لأول مرّة، وأن له امرأة تملك معنى الأنوثة والحياء.. كم أنت سعيد يا معروف، وليكن بعدئذ ما يكون! 

 لم تتغير تصرفات معروف بعد هذا الإحساس الجديد، وفوجئ الملك بمعروف يقول: 

-       أين الخازن دار؟

 فهب الخازن دار واقفًا وقال:

-       هأنذا بين يديك يا سيدي. 

فأمره معروف أن يحضر الذهب والخلع والملابس الملكية، فأتي الرجل بما أراد، فطلب منه أن يلبسها الأمراء والكبراء وأرباب المناصب، وراح بنفسه يهب كل من يسلم عليه ذهبا يتناسب مع قدره ومقامه.. 

وعلى مدى عشرين يوماً ظل معروف يواصل عطاياه للأمراء والكبراء حتى كادت الخزانة تفرغ، بينما القافلة لم يظهر لها أثر أو علامة تدل على أنها في الطريق. 

ولم يجد الخازن دار بدا من إخبار الملك، ولكنه خشي غضبته، ففكر أن يختار وقتًا مناسبًا يستطيع أن يخبره دون أن يهيج انفعاله.. وانتهز فرصة غياب معروف عن مجلس الملك، وجلالته هادئ سعيد، فدخل عليه وقبل الأرض بين يديه، ومن بين ضيقه وشدّته، هتف كأنه يستغيث: 

-       يا ملك الزمان لا تلمني على ما أقول..

اندهش الملك، وبدا عليه الانزعاج:

-       أي لوم؟ ماذا حدث يا وزير الخزانة؟ أخبرني سريعًا.

كان الوزير يرقب المشهد بملامحه الجامدة وعينيه المريبتين ودهائه الذي يطل منهما، والخازن يبدو متلعثمًا مرتبكًا، ولكنه لم يجد مفرًا أن يقول:

-       مولاي! لقد صارت الخزانة خاوية، لم يبق فيها إلا القليل جدا، بعد عشرة أيام لن يبق فيها شيء، وسنغلقها فارغة!

ذهل الملك وردّد بصره بين الوزير والخازن، لكنه تماسك وتوجه بالكلام إلى الأول:

-       يا وزير: إن قافلة صهري تأخرت، ولم يأت عنها خبرٌ! 

تبسم الوزير في خبث ومكر، وقال: 

-       مولاي! أريد أن أقول لك قولا قد لا يعجبك، فهل تعطيني الأمان؟

-       لك الأمان يا وزير.

قال الوزير وقد تحول ابتسامته إلى ضحك:

-       لطف الله بك يا ملك الزمان! ما أنت إلا مغفلٌ كبير صدّق هذا النصاب الكذاب!

-       تدفق الدم في وجه الملك، وكاد يفتك بالوزير، ولكنه تماسك، وآثر الصمت.

فأردف الوزير، والملك في ذهوله وغضبه لما يزل:

-       أحلف بحياتك يا مولاي أنه لا توجد قافلة ولا حملةً، ولا مصيبة تريحنا منه، جلالتك لا تصدقني وهو ما زال يكذب عليك وينصب، حتى أضاع أموالك وتزوج ابنتك دون مقابل.

وتمادى الوزير في تطاوله على الملك مستغلًا محنته:

-       إلى متى أنت غافل عن هذا الكذاب؟ إنك مغفل كبير!!

قال الملك في صوت منكسر: 

-       كيف العمل يا وزير حتى نعرف حقيقة حاله؟ 

خبط الوزير بيده على جبهته وقال: 

-       يا ملك الزمان، لا يطّلع على سرّ الرجل إلا زوجته فأرسل إلى ابنتك لتخبرنا بهذا السرّ، وساعتها تصرف كما تشاء!

 

جاءت الأميرة إلى أبيها، وهي في جلوة العرس لما تزل. لم يكن معها معروف. كان يتنزه في حدائق القصر سعيدا بعثوره على امرأة تحبه. أما هي فكانت ملامح وجهها تنطق بالبهجة والأمل، رحب بها الملك، وراح يسألها عن الزواج ومعروف، وحاله معها. فقالت:

-       أنا في أحسن حال يا صاحب الجلالة.

ضحك أبوها، ومازحها:

-       لا تخاطبيني بصاحب الجلالة. قولي يا أبي. فأجمل كلمتها سمعتها من فمك وأنت صغيرة كانت عند ما نطقت: أبي.

-       حاضر يا أبي.

-       هل وجدت فيه الرجل الذي تحبين؟

أغضت حياء، وقالت في صوت خفيض:

-       إنه نعمة بعث بها الله إليّ.

شعر الملك بفرح غامر لعثور ابنته على الرجل المناسب الذي يحميها، لم ينجب غيرها ويتمنى أن يتركها سعيدة مطمئنة موفقة، وكان قد أسر قي نفسه ليقتلن معروفا أشأم قتلة لو ثبت أنه نصاب وكذاب، ولكن أمر ابنته التي بانت سعادتها معه عقّد الموقف وعكّر صفوه، إنه حريص على أن تكون سعيدة، وأن تكون حياتها هانئة وهادئة، وهذا كل ما يريده من الدنيا قبل المُلْك والمال. ويخشى أن يكون معروف نصابا وكذابا كما قال الوزير. دعا ربه في سرّه أن تكون العواقب سليمة.

حضر أحدهم ليخبر الملك أن الوزير بالباب، فانسحبت العروس إلى خلف الستارة، ودخل الوزير منحنيا. وقال:

-       علمت أن الأميرة هنا، وقد أتيت لأحدثها بشأن زوجها.

قال الملك: حسنا. وخاطب ابنته خلف الستارة:

-       كلمي الوزير يا صاحبة السموّ. 

قالت الأميرة: 

-       ما بالك أيها الوزير؟

-       اعلمي يا سيدتي أن زوجك أتلف مال أبيك وقد تزوّجك بلا مهرٍ، ولم يزل يعدنا بوصول قافلته ويخلف الميعاد، ولم يظهر لقافلته علم ولا إشارة. نريد أن تخبرينا عنه. 

شعرت الأميرة كأن هناك تدبيرا يخططه والدها مع الوزير الحانق الذي رفضته زوجًا لها، فعملت على مجاراته في كلامه، حتى تكشف ما هو. وقالت له:

-       صحيح! فكلامه كثير ووعوده كثيرة، في كل وقتٍ يجيء ويعدني بالجواهر والحلي والذخائر والأقمشة الثمينة، ولم أر شيئاً.

 فقال الوزير:

-       هل تقدرين يا سيدتي في هذه الليلة أن تقومي باستدراجه وتأخذي وتعطي معه في الكلام لتعلمي منه الحقيقة؟ ولأنك زوجته التي تظهر له المحبة والمودة تستطيعين أن تساعدي أباك في كشف أمر هذا الرجل الذي ضيع أموال المملكة!

 قالت الأميرة موجهة الكلام إلى أبيها: 

-       أنا أعرفُ يا أبتِ كيف أختبرُه وأصلُ إلى الحقيقة.

يتبع...

 

 

 

 

 

 


تابعنا

أحدث المقالات

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة